لا أستطيع أن أتبين شعوري حين علمت أنني مهاجر لأقيم منفردًا بالصعيد هل هو تهيب من المجهول أو خوف من الانقطاع والوحدة؟ لم يسبق لي قط أن سافرت للصعيد أو خالطت أهله. صورته المنطبعة في ذهني رسمتها لي أقاويل تقارب تهاويل الإشاعات عن جرائم القتل والأخذ بالثأر، القاتل يصرف عمره في تتبع ضحيته ككلب الصيد وهي تفر أمامه مذعورة من بلد إلى بلد، والقتيل يراق دمه -وقد يلغ فيه القاتل- تكفيرًا عن اعتداء وقع قبل مولده، إن رمزت للصعيد بشيء فبهذه الشومة خشبتها في صلابة الحديد، تهوى بها أذرع قوية مفتولة على الرؤوس والعظام فتحطمها وتعجنها، في المتاحف من عهد طيبة جماجم لمومياوات عليها آثار وقع الشومة، نساؤه حبيسات في دورهن، فيهن من تفخر بأنها لم ترتد «الملس» إلا مرة واحدة، يوم أن خرجت زفتها من بيت أبيها إلى بيت زوجها وكأنما ودت لو كفنت به لتلبسه مرة أخرى وهو قشيب. فكل بلاد الريف كانت حينئذ في الهوا سوا، رغم غناها محرومة من الماء من المجاري والنور. دع عنك أنباء زحف العقارب، إن سلم منها فراشك كمنت لك في حلق القلة أو كوز الزير، وأحيانا داخل حذائك أو في بطن لوفة الحمام.. حياة خشنة صارمة، مجردة من الزينة، لا تعرف ولا تجيز دلع القاهري في طعامه وملبسه، نكاته ونزهاته، الليل في الصعيد سجان له يد سوداء تغلق الأبواب عند غروب الشمس على الإنسان والحيوان ومع ذلك أشعر بسعادة الانطلاق إلى عالم غامض أحس بسحره وعطره، كنت أشتاق إليه من قديم وأدرك أن مصريتي ومحبتي لبلدي لا تتمان إلا إذا اغتسلت في حوضه. منذ صغري ألحظ في زملائي أبناء الصعيد في المدرسة رجولة ونخوة وشهامة وجلدا ثم -وهو الأهم عندي- قدرة أشبه بالغريزة على تناول الحياة حلوها ومرها كما تلقاهم ويلقونها، لا يفسد تمتعهم بها ابتلاء بالتهيب، والشكوك والملل وفراغة العين، والبحث في ملك اليد عما وراءه، ما سمعت منهم شكاية، ولا أحسست بهذا النازع الخبيث المتستر في النفوس الضعيفة لاستدرار العطف والحدب عليها نوع من الملق والنفاق يصوب سهمه للداخل لا للخارج، وكنت أتتبع من فوق الكباري هذه المراكب العريضة تغطس في الماء محملة بالتبن أو البلاليص، جماعة من أهلها متحلقون عند الدفة حول قدر مسود، تحس أن أكثر من كلامهم، ورجل آخر يقفز في خفة القرد يتسلق الصاري ليلم القلع المرقع ويميل به حتى تمر المركب من بينه وبين ماسك الدفة صراخ لا أتبين ألفاظه، حاد كأنه تلاحم النبابيت، تتقد له الأعين كالشرر، وتبرق قادمة مع صمتهم تحت الكوبري. من أين هم قادمون؟ ما طعم هذه الحياة الطافية فوق الماء؟ كم تمنيت أن أصحبهم في رحلة لأعرف أسماء الرياح وعلاماتها وحيل التيار المخاتل، وأطل على الدوامات ويرسم لي النخيل الرشيق في كل لفتة لوحة في النهر متباينة، وأسلم في كل ليلة على «موردة» جديدة. يهتز قلبي حين يقال لي إن الجنازات في بعض بلاد الصعيد تعبر النيل من الغرب إلى الشرق، أحس أنني أعيش في عهد الفراعنة وأظل أصور لنفسي تأرجح الميت في القارب فوق المياه ينهي به حياته كما بدأها بتأرجحه في المهد، وكانت لي جدة تقول ضاحكة إنها تتمنى أن تشيع هكذا جنازتها حتى تشم الهواء قبل أن تغيب في قبرها. ولماذا أقصر كلامي عن الصعيد على أبناء المدارس؟ حتى الباعة الجوالون من فقرائه المعدمين يمشون في عزة كأنهم جند في استعراض عسكري لجيش ظافر، تضرب أقدامهم الأرض تكاد تخرقها، أجسامهم ممشوقة، ورؤوسهم مرفوعة، بطونهم مشدودة وظهورهم مبسوطة، إذا بانت لك عظام الصدر أحسست أنها غطاء دينامو لا يلهث ولا يصفق طلبًا للنجدة، كأن كل واحد منهم أكثر ما يجذب العين فيهم رقبة طويلة مغروزة في الجسد وحدها التي تضفي عليهم هذا النبل. 1947* * كاتب وأديب مصري «1905 - 1992».