عند الحديث عما جرى ويجري فوق الرقعة السورية قد تتضارب العناوين وتتعارك المسميات وتتشابك الرؤى فوق أرض السياسات وتحت سماء المقتضيات، فذلك الصراع المسلح الذي احتفل قهراً بسنينه العشر العجاف، قد كان سورياً وإقليمياً ودولياً، وكان حرباً وأزمةً وثورةً، أوله بضعة من الأطفال في درعا المدينة، وآخره ثلة من القواعد المدججة في سورية البلد، مروراً بالجماعات المعارضة والفصائل المسلحة والتيارات السلفية والجهادية، وعبوراً بالتواجد الروسي والأمريكي والإيراني والتركي وحزب الله اللبناني، كل هؤلاء وأكثر من هؤلاء لم يتوانوا عن الرقص الخشن ذي الإيقاع العنيف، على أطلال وأحلام ذلك البلد الجريح. ليس غريباً أن تقوم روسيا بدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد ضد معارضة متنوعة ومختلفة، فجعبة الغايات والمصالح الروسية في هذا الشأن لها ما يبررها بشدة لدى قادة وساسة الكرملين، متمثلة في الحفاظ على موطئ القدم الإستراتيجي شبه الوحيد في تلك المنطقة المحتقنة، وتعزيز مكانة وثقل روسيا القوية كصاحبة الريادة في إستراتيجية الحل والربط في الشأن السوري وبامتياز، وليس غريباً أيضاً أن تنتقل إسرائيل من نهجها المفضل «أو هكذا ادعت» بعدم التدخل فيما سمّي حينها بالربيع العربي، والتنظير وقتها بضرورة تجريد دمشق من كل ما سُمي أسلحة دمارٍ شامل، حتى تنامت إعلانات المشاعر «الإنسانية» لدى صنّاع القرار الإسرائيليين إلى حد تدشين مشفى ميداني للمدنيين السوريين الجرحى في هضبة الجولان «المحتلة»، فتنتقل إلى المواضبة في شنّ مئات الغارات ضد سورية، معللة ذلك بضرورة لجم الوجود الإيراني العسكري قربها، وقطع دابر تزويد حزب الله بما لذّ وطاب من المنظومات التسليحية التي تراها إسرائيل خطراً محدقاً لا بد من معالجته استباقياً، لكن العجيب أن يتشابه لوناً وطعماً رد الدبلوماسية الروسية مع حليفتها السورية عند وقوع تلك الهجمات المتكررة، فمن اعتاد التنديد السوري والتأكيد على حق الرد في الوقت المناسب والمكان المناسب، أخذ يعتاد على الرفض الروسي «الناعم» لتلك الهجمات التي وُصفت بغير البناءة وغير الشرعية، والتي تراها موسكو بأنها غير إنسانية وتنتقص من احترام وسيادة ووحدة التراب السوري، في الوقت الذي تتطاير فيه القذائف والصواريخ الإسرائيلية الموجهة متى وحيثما شاءت، قرب ترسانات أنظمة الدفاع الجوي الروسي المتطورة وراداراته التي تغطي أرض وسماء سورية، وليس بعيداً عن أبصار الطائرات الروسية حليفة الجيش السوري في حربه ضد خصومه في حلّهم وترحالهم. لقد نجح الطرفان الروسي والإسرائيلي في منع الاصطدام المباشر أو غير المباشر فيما بينهما بكل كفاءة متبادلة، رغم أن مصالحهما قد تتباعد أكثر مما تتلاقى في تلك البقعة الساخنة، لكنّ لسياسة الدول وغاياتها العميقة ما يبررها، ولستائرها الداكنة ما تخفيه في ظلالها، فلدى الحليف الروسي والعدو الإسرائيلي خط ساخن من الاتصالات عالية المستوى تلامس رؤساء الدول أنفسهم، ولديهم خرائط ملونة بغير ما عهدنا من ألوان البحار والسهول والجبال، فيها مناطق خالية من الضربات لأنها ببساطة خالية من الوجود الإيراني أو تمركز عناصر حزب الله اللبناني، أما الطريف في تلك العلاقة المتناغمة براغماتياً فهو التزام إسرائيل بضرورة إبلاغ الروس بإشعارٍ قصير المدى قبل قيامهم بأي هجوم ضد سورية، لتُسكت روسيا صواريخها وتغمض عينيها طواعية، أما الأطرف إن واظبت القيادة العسكرية الروسية على تمرير تلك المعلومات العاجلة إلى الجانب السوري للتصدي لتلك الهجمات، بينما إسرائيل تعلم ذلك وتغمض عينيها أيضاً!. قبل بضعة أيام أُطلقت مجموعة من الصواريخ الإسرائيلية باتجاه سورية، انطلقت من البحر الأبيض المتوسط لتحط رحالها في ميناء اللاذقية، وأقل ما يقال عن ذلك أن النار قد وصلت السماء، وأن الانفجارات قد هزّت أمواج البحر، كلّ ذلك قرب أنظار الجنود الروس في قاعدتهم الجوية العسكرية جنوب شرق تلك المدينة، ألا يكفينا ذلك لنعلم أن لعبة الأمم قد لا تدرك مصالح الشعوب، وأن سياسة عض الأصابع قد لا تتوانى عن قطع الأيدي وبتر الأرجل، وبعيداً عن الإبحار في غياهب المؤامرة وتكهناتها، فهل ستخبرنا اللاذقية بأن لسورية مصائب ومعاناة إنسانية، وأن بين روسيا وإسرائيل تفاهمات عاطفية!.