سيتبين مجددًا وتكرارًا بعد فترة وجيزة أن الحزب الإيراني في لبنان في مكان آخر غير الذي يقف فيه معظم اللبنانيين ومعظم الأشقاء والأصدقاء العرب والأجانب الساعين إلى وقف انحدار بلد الأرز إلى مهاوٍ أعمق من التي هو فيها الآن. وقد لا يكون اجتماع جدة الأخير بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وما نتج عنه إزاء لبنان، آخر الدلالات على إيثار الحزب الإيراني مصلحة أوليائه في طهران على مصالح بلده وأهله وربعه في الإجمال...واستمراره في استنساخ سياسة الاستثمار في البؤس بعد إنضاج ظروفه تبعًا للاستراتيجية المتبعة من جمهورية الولي الفقيه في كل مكان وصلت إليه «أنوارها» وعدّة شغلها البشرية والمادية !. ما أعلنه لقاء جدة من مواقف انفتاحية أو تصالحية أو إيجابية في الشكل والمضمون إزاء محنة لبنان وأهله، يدلّ من حيث المبدأ على أن الرياضوباريس، والرياض تحديدًا أكثر من باريس مثلما كان عليه الحال تاريخيًا، تقارب مآزق الوضع اللبناني والمصاعب التي تنهك عموم اللبنانيين من زاوية البحث عن أفضل وأنظم السبل الكفيلة بالمساعدة على العبور إلى الضفة الأخرى من نهر الأحزان والكوارث، بغضّ النظر عن اكلاف ذلك عليها.. وبغضّ النظر عن حسابات الربح والخسارة الأثيرة في العلاقات الدولية والرسمية. لم تغير الرياض بهذا المعنى تلك المقاربة ولم تحد عنها بل يمكن التأكيد على أنها لم تبحث في يوم من الأيام عن بناء منصات نفوذ أو اقتدار لها على حساب دماء اللبنانيين، أو عبر الاستثمار في انقساماتهم وأزماتهم وحروبهم. ولم تضع ذلك في حسبانها لا سياسيا ولا ديبلوماسيا، بل العكس كان ولا يزال صحيحا: عندما تدعو مع الفرنسيين إلى تثبيت اتفاق الطائف فذلك فيه مصلحة تامة للبنانيين أولا وثانيا وثالثا، وليس للسعوديين ولا للفرنسيين.. وعندما تصّر مبدئيًا وفعليًا على التذكير بالقرارات الدولية ذات الصلة، ففي ذلك سعي حثيث إلى تحصين الكيان الوطني اللبناني ودور الدولة وسلطتها ووحدانية حقها بحمل السلاح ورسم سياساتها الخارجية. وعندما تذكّر جميع المعنيين في بيروت بالتزاماتهم إزاء الإصلاحات الضرورية والحاسمة والشرطية فإنها تقول المختصر المفيد الذي تقوله كل الجهات والهيئات الإقليمية والدولية المانحة: ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم ! وساعدونا على مساعدتكم ! وفي ذلك ذروة المنطق وعين العقل وتأكيد منهجي على معاملة تفضيلية للبنان إذا صحّ التعبير.. وتثبيت لسياسة إطفاء أزماته وليس تسعيرها، وسعي محمود إلى المساهمة والمشاركة في الحرب على الفساد ! وفي إعانة عموم اللبنانيين على تحقيق آمالهم العريضة بالوصول إلى مؤسسات نظيفة ! ودولة غير منهوبة ! وخدمات أولية غير خاضعة للمحاصصة السياسية والطائفية والمذهبية، ولشروط تلك المحاصصة التي تعني بداية ونهاية عدم وضع حلول مستدامة لأزمات تلك الخدمات وأولها وأخطرها في قطاع الكهرباء ومشتقاته النفطية !. ما أنتجه لقاء جدة بهذا المعنى، ليس جديدًا ولا طارئًا على السياسة السعودية إزاء لبنان بقدر ما هو تظهير لعقلنة تلك السياسة وإخراجها من إطاراتها العاطفية المحضة ووضعها في سياقات مؤسساتية تخدم الطرفين بالشكل الصحيح وتنهي المعادلة الظالمة القائمة على تقديم العون والمساعدة وتلقف النكران والجحود والأذى ! وعلى رحابة وتفهم في غير موضعهما ! وعلى غضّ النظر عن إساءات خطيرة من دون لجم تلك الإساءات ولا التخفيف من غلوائها ! هذا قد يصلح ليكون شغل جمعيات خيرية ومنظمات إغاثية وليس شغل دول تتعرض للعدوان والاستهداف بوضوح وسفور تامين !. لم تتغير المبادئ العامة للسياسة السعودية تجاه لبنان الرسمي وغير الرسمي، لكن شيئا كبيرا تغير في لبنان نفسه عندما صارت سلطته الشرعية خاتما في إصبع صاحب الشأن الإيراني ! ومظلّة لعمّاله وأتباعه ! ودرعًا رسمية تردّ عنه في لبنان تبعات سياساته في طهران !. ثم عندما راح لبنانيون في الحزب الإيراني إلى حمل أوزار تنفيذ ما تطلبه طهران من دون توريط إيرانيين مباشرة فيه ! وإلى تنفيذ كل ما في برنامجها من بنود عدائية نافرة في عموم المنطقة المحيطة بدءا باليمن مرورا بالعراق وسورية وصولا إلى لبنان نفسه.. عدا عن «المتفرقات» ذات الطابع الأمني التي سُجِلّت في دول خليجية وأوروبية وآسيوية وأمريكية جنوبية.. إلخ !. والذي يبدو راهنا هو أن النافذة التي فتحها لقاء جدة في الجدار اللبناني المأزوم، سمحت بتمرير بعض الهواء المنعش ووضعت ما يشبه خارطة طريق على طاولة المعنيين في بيروت.. وفي أيديهم بوصلة المسار لتحويل النافذة إلى باب واسع أو لإعادة الإقفال وتضييع الفرصة !. والأرجح الذي تفرضه وقائع الاجتماع السياسي الراهن وحالة السلطة الرسمية، هو عدم توقّع الشيء الكثير حتى لو كانت النيّات صافيات عند البعض في المقرات الرسمية باعتبار أن المشكلة عندهم لكن حلّها ليس كله عندهم ! والواضح حتى اللحظة هو أن حزب إيران السارح على هوى سياستها، لن يلتزم غير تلك السياسة، وهذه حتى لو ارتضت سابقا بعض التفلّت المحلّي تبعًا للهريان الخطير الضارب في كل ناحية، تعمل راهنًا وفق وتيرة تصعيدية وليست تهدوية بعد فشل الجولة السابعة من المفاوضات «النووية» في فيينا في إحداث أي خرق إيجابي كبير. وعلى عادة صاحب القرار الإيراني: يفاوض بالنار والتخريب والابتزاز الأمني.. ويسعّر ويصعّد تحت لافتة بني حوث عدوانه بالصواريخ الباليستية على المملكة، وسيسعّر ويصعّد تحت لافتة حزبه في الضاحية الجنوبية لبيروت من عدوانيته تجاه أي خطوة سياسية سعودية أو مشتركة مع الفرنسيين وغيرهم تجاه لبنان. ...موهوم وواهم من يعتقد أن حزب الله سيضع مصلحة لبنان قبل مصلحة إيران وفوقها، فهو حزب إيران أولا وأخيرا !. * ينشر بالتزامن مع موقع " لبنان الكبير" في بيروت.