أمّا قبل: «وعلَّم آدم الأسماء كلّها»، الحدود الجغرافية الداخلية تشي بتفاصيل المكان المضمرة، لا يدركها إلا بنوها، وامتلاكها حيازةً بحكم العرف واللغة والعادة، بحسب طبوغرافية المكان وتضاريسه وانضغاطه أو انكماشه –إذا جاز التعبير– كانكماش الصّقر في «أمْقلّهْ» في زمهرير الشتاء! هذا المكان «النّواة» تكاد تكون مرآة مقعّرة لا تتسع لقفزات «الشنفرى»!. إنها بقعة من الأرض المكتنزة بحيوات القبيلة، وما ينتظمها من أعراف وقوانين جعلت ساكنها –طالما التحف سماءه وافترش أرضه- وسِادتُهُ «صليفٌ» من صخر المكان، والنّوء ينهضُ به ويَميلُ جعلته يسميِّها «أمْوَطَنْ»؛ فهو يمشي في مناكبها ويخوّل بارقها، ويأكل من رزقه بَقَدَرْ (وإليه النشور). وفي الأثر «ليس من أمْبر امصيام في امسفر»؛ بهذا تجاذب الحديث نبينا محمد -صلى الله عليه وسلّم- مع الصحابي ابن بيئته، هذه المستعمرة الاستيطانية الصّغيرة «الوطن»، كما يسمِّيها قصيدةُ حياته وفلذة كبده ودهشةُ عينيه يقول شاعرها الشعبي: «وابْتثنْتْ بقعه.. حدّها ماي عذبة»! إنه يتنفّسها بكلِّ ما احْتوته من أسماء؛ فهي أكسجين عقله وقلبه وصدى ضميره، إنها دواء سقمه وترياق رقيته «بسم الله تربة أرضنا بريقةِ بعضنا يُشفى سقيمنا بإذن ربِّنا»، مما جعله يدّون ويسجّل في أضابيره صغيرها وكبيرها، وشاردها وواردها؛ فهي اختزان مستودعه، فيها مرافئ ذاكرته ومنارة برْهته وعشيّته، وهو نديُمها متفّهمٌ لمورفولوجيتها أباً عن جد؛ لتجدها أثراً مرصوداً وسطراً مقروءاً. إن في تحكيم المصلحين بين الأخصام أو في وثائق البيع والشراء، وما إلى ذلك من أبجديّات الملكية الخاصة، محاجّة تدفعْ وتذودْ عن تملِّك الفرد والعشيرة، وقد قيل اللغة ابنة البيئة التي أنشاتها -ففضلاً- عن الجهات الجغرافية الرئيسية شمال جنوب شرق غرب كتحديدٍ جغرافي أوّلي؛ هناك حدود داخلية، وامتلاك لمفردات المكان -أنشأها العرف والعادة ومسّ الحاجة– من شجر وحجر ومصاطب اللوحات المائية، وهي ما يطلق عليها الشعاب، والمسايل، ومكامن الماء واختزانه في أوعيةٍ صخريّة، أو ترابية «ركايا»، احْتفرتها الأيدي لتُفضي إلى قطعٍ زراعية صغيرة متواضعة، وريّاً يبلَّ ظمأ الهاجرة، «وجَحَرَ» الوقتْ في التماع «برقْ الخلّب»!. لذا فهندسة المكان وخطوط بصمته وانحناءاتها فرض واقعاً -بلغة سياسة المكان- لا بد من التعامل معه بداهةً وكياسةً وحاجةً ودواةً وقلماً من البوص لتسطير وتأصيل «قاعدة» [وثيقة مكاتبة] برسم اللغة يُعتدُّ بها لدى المحكمة الشرعية؛ ذلك أنها تأكيدا وأخذاً بالعرّف والسّلمْ في محتوى وثائق التملّك لدى إنسان هذا المكان جيراناً وعشيرةً وقبيلةً.. فأهل مكة –كما قيل– أدرى بشعابها! حتى إنّك لتجد مثل هذه العبارات المسطورة: «على حسْبْ أمرْ أمير رجال ألمع فقد حضر كل من [.....] في المُشْكلْ في شيءٍ لثلاث لحام.. فجعلوا ثلاثة رسوم تردّ [......] ومن الشام عن السبيل سبعة رسوم.. ولا تعدِّي لواحدٍ على الثاني...إلخ»، بتاريخ 19/11/1386ه. ومن مثل: «يعْلمْ الواقف على هذا المكتوب والنّاظر إليه أنّ [.....] شرى من لحمته (آل إمشعبان) ثلثهم من العروج في ظرافة»؛ أي سدرها، ومثل: باع [.....] حصة أخيه [.....] من مُخّلَفْ أبيه من البلاد والشجر فلقْ القطعة الكبيرة وخمسة «نَقَالْ» في الشعبة البحرية التي تنْدرْ في «امْقمره».. والثاني الذي في أسفل الشعبة الشامية.. وصار ملك المرحوم [.....] من بلاد وشجر وكدر لأخيه [......]»، بتاريخ 1340ه. أو من مثل قولهم: يحدّها «ثمايلها وعروجها»، أو يحدّها «زبَرْها» التي يعرفها البائع والمشتري! أو يحدّها «شنعة فلان»؛ أي مكان وموقع خلايا نحله. وهكذا هي لغة وثيقة التملّك أباً عن جدّ، إنها رواية المكان وناسه في متنها وسندها المتواتر، وفقه واقع البيع والشراء والتمّلك... حتماً ليست رواية من بنات الخيال!. هذه الفسيفساء والتفاصيل الدقيقة لإحداثيات المكان حاضرة بقوّة أشعة الشمس في رابعة النهار وحمأة القيظ! لدرجة التّقنين المتفق عليه بين أفراد القبيلة له حرمته ووجاهته في ظِلِّ «عبقريّة المكان» وتموضعه، فهذه التفاصيل عَلَمَاً حدّياً يؤكّد الملكّيات الخاصة معنىً ومبنى بالعدل والإنصاف، وبالتّالي يؤلّف بين قلوب أصحابها فلا مجال ل«ضِجْمٍ ماء.. وضِجْمٍ لبن»! ليندرج كل ذلك في كليّة الحمى وما أدراك ما الحمى؟!. «فلا يُقذف بي الرّجَوَانِ إنّني.. أقلُّ القوم من يُغني مكاني»!. ولأن جدلية المكان والإنسان مستمّرة، فأفراد القبيلة لديهم من الأنعام ما تفضل الله به عليهم من المواشي بفصائلها، فالمناشر (الجبال) سروحاً لحلالهم –فضلاً- عن احتراف تربية النّحل مما يعني الاحتفاء والاعتناء بحيّوية المكان، فللأشجار بتنوّعها قيمة مادية ومعنوية كونها علفاً للبهائم ورحيقاً تجْرسهُ النحل، وظلالاً تنعقد تحتها المشورة، وهُنَيهَة «راعٍ ومعادلاً» لسقف المنازل وابتراء للعصي توكّاء وهشّاً للأغنام ولتّاً للعصيدة وجدْلاً لحبال «المرسْ»، واعتصاراً للقطران واستياكاً من غصن «بشام»، وعقراً للثعابين وليس آخراً حنوطاً لموتاهم!! و... و...إلخ. هذا المعطى الربّاني لصِدْر المكان جعل إنسانه يستثمره إلى أقصى حدّ، ولا يفرّط في تمثِّلاته وتجلّياته من صميل «العتم» [الزيتون البري]، واطمئنان اخضرار «البنَّ»، وقيثارة القصب، وليس انتهاء بحصاة تسند الزير وتنكّه «رظيفة السّويق» وحجر «صوّان» يؤصّل به مسكنه، إنه نصٌ صوفيٌ في غناه الدافق إذ لا مفر من النطق والقول، ولا تحرر من التصّور والفهم، إنه رهان الاستخلاف والتكيّف مع واقعه المكاني!. ولمّا كانت محافظة رجال ألمع ضمن ما يطلق عليه محلياً «الاصدار»؛ وهي مكونات جبليّة صعبة التّضاريس تتخلّلها أودية ضيّقة حتى إنّك لا ترقى إليها إلا عبر ما يسمى ب«العقبة»، وما أدراك ما العقبة ليتداعى المثل الدّارج «وقف حمار الشيخ في العقبة» لأخذ نفس جديد يُعينه على الصّعود! مما فرض على خليفة هذا المكان أن يتدبّر وضعه، ويُعدُّ للأمر عِدّته، وكيف يختطُّ له ولأحفاده عمراناً يقيم حياته وأوده؟! من ابتناء منزل في عروض الجبل واحتراث «أركبه» زراعية صغيرة ما بين أوتاد الجبال وسبب الوادي وضفافه.. إنها أسطورة المكان وسلطانه يقابلها فكرة الإنسان وهمّته في اجتراح قصيدة مكانية موزونة ومقفّاه.. ليعيش.. ليعيش!! إليك هذا: يحدّها من الشّمال «أعلى مَجْنبْ مشني»، إنه تماهي المكان وتعالقه ف«مَجْنبْ مشني»، هو الشّخص «مشني» بطفشته وأخاديد وجهه وعروق يده وحفا أقدامه.. إنّه صكّ تملّك فريد! بتوقيع العشيرة وشيخ القبيلة وختم المحكمة. أمّا بعد: ف«الضّيف في حكم المضيّف»، «على مائدة نثريِّات أمثاله اليومية وأعرافه وقوانينه نلتقي لنتشاور تحت أمْعرج»!. «لا يخفاكم»، فقد قرأت الكثير من وثائق التملّك القديمة لدى المواطنين من القبيلة تُعنى بصدق التمّلك ووثوقيّته كابراً عن كابر، والنّاس شهودُ الله على أرضه بقي أن هناك بعض الأخطاء غير المقصودة –لا من جهة المكان والموقع– إنّما من جهة التحديد الجغرافي الرئيسي الصِّرفْ شمال جنوب شرق غرب. فقد: 1- يُستبدل الشمال بالشرق والجنوب بالغرب أو العكس.. وهكذا اجتهاداً خاطئاً أو جهلاً بالاتجاه الصحيح الذي أوضحه وبيّنه الرسم الكروكي الحديث بآلاته الدقيقة. 2- نشأ بتعاقب الأجيال –سنة الله في خلقه– بحكم التوريث والتقسيم والتوزيع والبيع والشراء والمناقلة، وما إلى ذلك من صور التملك الأخرى، نشأ نتيجة ذلك مُلاّك جدد بأسمائهم ووثائقهم الثبوتية الجديدة المؤرّخة حديثاً، والتي تدعمها الوثائق القديمة أباً عن جد، مما يمكّنهم من إعمارها وفلاحتها وحق التصرف فيها. 3- ماذا عن أصحاب الدخل المحدود الذين –بالكاد- يكفيهم.. ماذا عن أملاكهم؟! عليه وبناء على ما تقدّم من إفصاحٍ وبيانٍ فيما يتعلّق بصيغ التملّك لدى سكان وأهالي المحافظة فإنني آمل من هيئة عقار الدولة ومنصّتها إحكام النّظَر إلى ذلك، وأخذه بعين الاعتبار، وإدراكه وتفهمه بحكمة ورويّةٍ وبصيرة وفق معايير العدل والإنصاف التي شرعها ديننا الحنيف، وأقرّها دستور دولتنا الرشيدة.