ربما أصبح الحاضر والماضي في لبنان جليسان في كفة واحدة، لا ندري أيهما أكثر إيلاماً، فالصراع يتبعه صراع والنزاع يسبقه نزاع، وحفر مسارب الغد يثقله نبش قبور البارحة، والأعمال والأقوال مجرد ردود أفعال، تتناطح في المقدار وتتصارع في الاتجاه، والقامات العتيقة تموت ولا تبدّل أثوابها العتيقة، والطامحون الجدد يتشدقون بالفضيلة وعدم الانحياز، ثم يهرولون في خُطب العبثية ومسالك النشاز، فيُحمّلون لبنان المثقل بأكثر مما يطيق، ويصبغون الأرزَ بما لا يصحّ ولا يليق، وفي كلّ مرة تتبدد الرؤيا وتتلاشى الطريق!. لم يكد اللبنانيون ينسون حالة الهلع والفوضى التي غطّت وروّعت عاصمتهم، عندما انطلق الرصاص وتطايرت القذائف وسالت الدماء، وأصبحت البيوت مرتعاً للقتلة وخندقاً للقناصة، وأخذت أشباح الحرب الأهلية تتراقص في شوارع بيروت، فهناك من يرتجف وهناك من يموت. لم تكد تلك الغيوم السوداء تنقشع حتى انبرى وزير الإعلام اللبناني بصوته وصورته، ذلك الرجل الوسيم ذو الابتسامة العريضة والوقار المتطاير، الذي علّمنا الكثير والكثير في رحلة البحث عن المليون، فنجده أخيراً يغرق في طرائف دون كيشوت التي لا تنتهي، يحاول جاهداً محاربة طواحين الهواء التي يراها تنشر الشرّ في العالم، فيُمجّد الحوثيين وينتقد التحالف السعوديّ العربيّ في اليمن، واصفاً تلك الحرب بالعبثية. وربما لا يملك أحد مصادرة حقّ الرجل بأن يعتقد بما يريد ويدلي بدلوه كما يرى، لكن المنطق هنا يلزمه التعجّب ويقتضي السؤال. هل نسي الرجل أنه الآن لسان حال الدولة اللبنانية وناطقها المفترض!، وأن ما يظنه ويهواه لا يظنه ويهواه غالبية اللبنانيين، مما حدا بحكومته إلى التنصّل من كلامه ونبذ مبتغاه. وهل تناسى الدور السعوديّ العريض في دعم الشرعية اليمنية عسكرياً واقتصادياً وإغاثياً، والتي قابلتها الميليشيات المرتزِقة باستهداف المدن والمطارات السعودية بالصواريخ والمسيرات المستوردة.. وهل نسي الذراع السعودية الشقيقة التي طالما دعمت لبنان واستضافت اللبنانيين على مدى عقود طويلة. إن خانته الذاكرة فكلمة «الطائف» ربما ستوقظ ذلك السبات فيها، وهل سعت السياسة السعودية يوماً في لبنان إلى تعطيل حكومة أو تأجيل انتخابات أو إطالة شغور رئاسيّ، وهل قامت السعودية بتدريب وتسليح وتمويل بعض الفرقاء والطوائف اللبنانية دون سواها لبسط هيمنتها هناك، أم أن الدور السعوديّ قد كان وبقي لدعم لبنان الدولة الواحدة المستقرة بكافة أطيافها وأديانها. ثم ألم يكن من الأجدر بهذا الرجل المتسلّح بالسيادة والرافض للإملاءات والمُحجم عن الاعتذار، أن ينتقد الدور الإيرانيّ البغيض وسيطرة ميليشيا حزب الله على مفاصل وحدود ومخارج ومداخل لبنان الدولة برمتها. ألم يتذكر انخراط آلاف الشباب اللبناني في محرقة الحرب السورية تحت شعارٍ من الزيف مفاده النأي بالنفس بلبنان الجريح. وبعيداً عن التسطيح الساذج والتبسيط المخلّ، أليست محنة اللبنانيين الآن في كهربائهم ومائهم وأمنهم وغذائهم ودوائهم ومستقبل أبنائهم في أوّل الأولويات وأمسّ الحاجات يا سيدي الوزير!. لقد عانى اللبنانيون كثيراً وانتظروا طويلاً، وفي كل مرة تتبدّل فيها الأحداث تتسارع البنادق في صحوتها، في ذلك البلد الجميل الذي يشتاق لعافيته ويحنّ لبوتقته، ويتلهف لزوال غمته، بينما هو يعجز عن حذف أيّ من خياراته، أو لمّ شمل جمهوره، أو الاتصال بأصدقاءٍ وأشقاءٍ يكاد يفقدهم الواحد تلو الآخر!