انطلقت وفي يدي رفيقة دربي، ما أروعها بيضاء رقيقة طويلة تصل إلى 2.5 متر تقريباً. أحملها كل شهر ثابتة لا تتغير، اسمها المُختصر "ورقة المقاضي". نفس طلبات الشهر الماضي، غير أنني في هذه المرة أقرؤها بترتيب مختلف. تمنيت أن أجد في هذه القائمة شيئاً جديداً! لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. وصلتُ إلى المتجر، وبالتحديد إلى المواقف الثمانية المخصصة للمعاقين أمام المدخل الرئيسي. وإذ بي أفاجأ بشيء جديد لكن ليس في قائمة "ورقة المقاضي" كما تمنيت، إنما في طابور سيارات الأجرة البيضاء "الليموزين" التي تقوم بتحميل وتنزيل الركّاب من المواقف المخصصة للمعاقين. ومن شدّة قهري لما شاهدت أخرجت الهاتف المحمول من جيبي وقرّبته من عيني واتصلت بالرقم 993 مستغيثاً مستنجداً بالمرور. ردّ شخصٌ ما قائلاً: نعم. قلت: أخي الكريم. معك سَفَر، مواطن سعودي مُعاق. وجدت سيارات الأجرة تقف في المواقف المخصصة للمعاقين. قال: أين الموقع؟ قلت: متجر كذا. قال بصوتٍ جاد: هل تقصد مواقف السيارات التابعة لذلك المتجر؟ قلت: نعم. قال بكل بساطة: يا أخي كلّم رجال الأمن التابعين لذلك المتجر. فرددتُ عليه بكل حُرقة: لو قدّر الله أن صار لي حادث في هذه المواقف، من سيُعطيني ورقة الإصلاح المرور أم رجال الأمن التابعون لهذا المتجر؟ قال: ليس لي علاقة بتلك المواقف. قلت: شكراً لك. إذن سيارتي ستقف هنا في منتصف هذا الشارع. ردّ بحدة قائلاً: أنت تَخّل بنظام السير. قلت: إن هذا الأمر لا يخُصُك، إنه من اختصاص رجال الأمن التابعين لهذا المتجر. شكراً للمساعدة، وأغلقت الهاتف على الفور دون أن أستمع إلى رده. لكنه عاود الاتصال بي قائلاً: لا تقف في منتصف الشارع، سأُرسل لك دورية. قلت له: اتصلت مستغيثاً مستنجداً بك وأنت لا يتحرك لك ساكناً! مواقفنا تُسلب أمام أعيننا، لماذا تتركونهم يستغلّوننا؟ شعرت حينها كأنني أتكلم عن أُناس ليسوا من بني جلدتي، أناس وكأنهم مخلوقات من كوكب آخر لا يشعروننا بآدميتنا كمواطنين في هذا البلد. وفي غضون دقائق، إذ بدورية أمنية قادمة من بعيد. فقلت في نفسي: خدمات سريعة الحمد لله. أوقف رجل المرور سيارته وخرج يسأل بكل هدوء: أنت صاحب الشكوى؟ قلت: نعم، يا أخي الفاضل كيف تسمحون للأسوياء أن يقفوا في المواقف المخصصة للمعاقين؟ قال: وكيف عرفت أن صاحب هذه السيارة سليما؟ ربما يكون معاقا! قلت: لو كان معاقاً لوجدت مُلصقاً على زجاج السيارة الأمامي يدل على أنه مُعاق كما هو موجود الآن على سيارتي. نظر إليّ بشفقة وقال: حسناً. استجمع رجل المرور قواه وأعطى الرجل السليم مخالفة مرورية لكن من "العيار الثقيل"، ماذا تتوقع؟ لقد كانت محاضرة دينية! وبصوتٍ جهوري واضح قوي عليه وقار وهيبة خطب على الملأ قائلاً للرجل السليم المخالف للقانون: حرام عليك، ألا تخاف الله؟ أما ترى هذا الرجل المسكين ماثلاً أمام عينيك ليس له حول ولا قوة. فهو لا يستطيع أن يفتح باب سيارته، وينزل بكل بساطة كما تفعل أنت. لماذا تقف مكانه هكذا؟ أرجو يا أخي ألا تكرر هذا التصرف مرة أخرى. جزاك الله خيراً. ومن شدة تأثّر الرجل السليم بالمحاضرة التي ألقاها عليه فضيلة رجل المرور كاد أن يُخرج من جيبه ريالاً ليُعطيني صدقة بنيّة دفع الأذى عنه وعن ذُريّته. الحمد لله أنه لم يفعلها، وهذا من جميل لُطف الله بمشاعري. لكنه نظر إلى رجل المرور بعين منكسرة، وقال: حسناً لن أكررها مرة أخرى. وما إن سمع رجل المرور هذه الإجابة حتى ارتاح ضميره وهدأ باله، فابتسم ثم أدار ظهره ورحل. أما أنا فصرت أنظر إلى الكون من حولي وأقول في نفسي: يا إلهي، ما هذا الكلام الذي سمعته؟ جعلني أشعر بأنني ضعيف وليس صاحب حق. تمنيتُ أن أرى من رجل المرور قانوناً رادعاً يُثقّف، ويُثيب، ويُعاقب، لأن النُظُم هي التي تُحوّل الأفراد إلى مجتمعات، فإن كانت مُتحضرة صار المجتمع مُتحضراً. توقعتُ من رجل المرور أن يُعاقب الرجل السليم بغرامة مالية أقلّها 200 ريال، مساوية تماماً لمُكافأة جائزة ماراثون "جدة غير" للمعاقين! دائماً ما نسمع هتافات تنادي بوجوب خروج المعاقين من العزلة والانطوائية إلى المجتمع. أي عزلة وأي انطوائية هذه التي ينادون بها؟ هل وفرّ لنا المجتمع سبل العيش الكريم حتى نخرج كما خرج أمثالنا في بلدان أخرى؟ لكنني في هذا الموقف قررت أن أتصرف بإيجابية فأنا قوي وصاحب حق، ولن أتنازل عن حقي مهما كلفني الأمر. وحقوقي استمدها من كوني مواطنا سعوديا مؤمنا، ف"المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف". تمرّدتُ وأخرجت من جيبي رفيقة دربي "ورقة المقاضي"، وكتبت على ظهر تلك الورقة "إذا كنت تريد أن تأخُذ موقفي فخُذ إعاقتي" وألصقتها على زجاج السيارة الأمامي لإحدى السيارات التي خالفت القانون ووقفت في المواقف المخصصة للمعاقين. أخي القارئ الكريم، بالله عليك: ما الدور الذي ستقوم به لو وجدت هذه العبارة مكتوبة على زجاج سيارتك؟