دخل يتوكأ على عصاه، وعلى سنينه الرامسة.. صار يتفحص الوجوه، ويبحث له عن مقعد، وفي يده الراعشة ورقة ترتعش.... لم يجد مقعداً فوقف متوكئاً على عصاه ينتظر لفتة من السكرتير.. وطال وقوفه، وطال انتظاره.. ولمّا لم يلتفت إليه سعادة السكرتير، خطا خطوتين، أو ثلاثاً حتى اقترب منه. ثم قال يا بني أريد أن أقابل المدير... نظر إليه السكرتير بازدراء واحتقار، وأخذ يذرع بعينه جسد الشيخ الراعش من قدميه إلى رأسه، ثم رد بابتسامة ساخرة، تافهة، قائلاً: ومن أنت كي تقابل سعادة المدير..؟ قال الشيخ: أنا رجل من عبادالله، مواطن ولي حاجة أريد أن أحدثه فيها... قال السكرتير: لا داعي لأن تقابل سعادة المدير فسعادته مشغول.. ثم أردف بنذالة وهوج: اسمع يا (....) إذا أردت أن تدخل مكتباً محترماً، وأن تقابل رجلاً محترماً فعليك أن تنظر إلى ثيابك قبل أن تدخل... أهذه ثياب يدخل المرء بها دوائر محترمة..؟! تلبث الشيخ المسكين، وتلعثم، ثم استجمع قواه وقال: يا بني لقد لبست والله أحسن ما أملك!! وأنا ما جئت زائراً، ولولا الحاجة ما رأيتني واقفاً ببابك ولا رأيت ثيابي التي ليست في مستوى المقام..!! قال السكرتير في اشمئزاز وصفاقة: اذهب إلى الوارد وسجل معاملتك وخذ رقمها وخذ موعداً للمراجعة.. أدخل الشيخ يده في جيبه وأخرج رزمة من الأوراق، وقال: يا بني هذه أوراق مراجعات، كلها أرقام وقيود ومواعيد ولكن لا شيء يا بني يتحقق لا شيء يتحقق..!! يا بني أنا شيخ كبير كما ترى، ورب أسرة بها عجائز، وأطفال قصر، وأنا المسؤول الوحيد عنهم، والقائم على رعايتهم، ولو كان في الجسد بقية من قوة وشباب، لما والله رأيتني واقفاً مثل هذا الموقف، ولكن حسبي الله وعتبي على الأيام.. يا بني إن كنت تسأل عن ثيابي ونظافتها، فإن ثيابي التي لم تعجبك أقابل بها ربي - وهو الأعظم - كل يوم خمس مرات وهي أشد نظافة، وبياضاً، ونصاعة، من بعض القلوب، والنفوس التي ران عليها سواد النذالة، واللؤم والتلذذ بإهانة الآخرين، والنيل من الشرفاء وذوي العفاف.. ووالله يا بني ما دخل جيبي حرام قط وما أطعمت أولادي حراماً قط.. ولو كان هذا الزمان منصفاً لما رأيتني رث الحال، رث الخطاب، أعامل وأمثالي معاملة الكلاب عند بابك وباب مديرك الذي أعلم أنه لا يقابل إلا الوجهاء، وأصحاب المقامات.. وكم تمنيت يا بني أن شيئاً يكفل حقي قد حال بيني وبينك فأراحني من القدوم إليك، وأراحك من منظري المزري، ومن ثيابي التي لا تليق بمكتب محترم كمكتبك، ومدير محترم كمديرك.. ثم مزّق الشيخ بيده الراعشة ورقته الراعشة، وخرج وعيناه تطفحان بالدموع والألم والظلام..!!