ينص الهدف الحادي عشر من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر لعام 2030 والتي وضعتها الأممالمتحدة في القمة الأممية التي عقدتها في سبتمبر من عام 2015 على «جعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود ومستدامة»، وذلك كرؤية عالمية لمستقبل أفضل. ولعل هذا يُظهر لنا مدى الاهتمام العالمي بالدور الكبير الذي باتت تلعبه المدن اليوم، فهي لم تعد بيئة اجتماعية مهمة لقاطنيها فحسب، بل أصبحت تشكل محركات رئيسة لتحقيق الرخاء والنمو الاقتصادي، إضافة إلى مساهمتها الكبيرة في الناتج المحلي الإجمالي للدول، حيث بلغت حصتها من إجمالي الناتج العالمي %70 تقريبا. ونظرا لدورها الاقتصادي المهم، وضعت العديد من الدول خططا تهدف لتحويل المدن إلى مراكز حضرية لها طاقة إنتاجية وتنافسية أكبر عبر تقديم بيئة ملائمة لقاطنيها، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف لجذب استثمارات ضخمة، وتنشيط حركة الأعمال. وبما أنها جزء من هذا التنظيم العالمي، فقد سارعت المملكة إلى اللحاق بهذا الركب، وأولت اهتماما كبيرا بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة، ووضعتها في مقدمة أولوياتها، بل إنها طرحتها ضمن رؤيتها الاقتصادية الطموحة «رؤية 2030»، التي تهدف إلى إعادة اكتشاف نفسها من جديد، اعتمادا على مقدراتها السياحية والثقافية والتاريخية، باعتبارها وجهة عالمية فائقة الروعة، تتمتع بمقومات جاذبة. تجليات الرؤية السعودية بلغت ذروتها في السنوات الماضية، عندما عملت المملكة على تسخير جميع طاقاتها الاقتصادية لتهيئة وإحياء آلاف المواقع التاريخية والتراثية، والعمل على تطويرها لتكون من أهم الوجهات السياحية والثقافية والتعليمية والترفيهية في المنطقة والعالم، وذلك عبر تبنيها مفهوم صناعة الأماكن الذي يتعامل مع التصميم الحضري من منظوري القيمة الجمالية والمعاني الاجتماعية، من خلال الاهتمام بالمظهر والصورة البصرية للعناصر التصميمية للمكان، وفي الوقت نفسه الاهتمام بالطريقة التي يستخدم بها الناس المكان بصورة فعالة ومتنوعة، وإلى الكيفية التي أصبح بها هذا المكان جزءا من الذاكرة الجمعية للمجتمع، بشكل يساهم في جذب السياحة وتمكين الجميع من الوصول إلى هذه المواقع بوصفها شاهداً حياً على إرثنا العريق وعلى الدور الفاعل، والموقع البارز على خريطة الحضارة الإنسانية. فطالما كانت بلادنا ذات تاريخ طويل في الحضارة الإنسانية، وما زالت حاضرة وغنية بمواقعها التاريخية وطبيعتها المتنوعة، حيث تتميز أراضي المملكة الواقعة ما بين سواحل ممتدة على البحر الأحمر غربا والخليج العربي شرقا، باحتضانها لمواقع حافلة بشتى أنواع التراث الإنساني والفني القديم والمعاصر التي لم تبح بعد بكل خباياها وأسرارها. فوفقا لهيئة التراث بلغ مجموع المواقع التي تم تسجيلها في السجل الوطني للآثار منذ إنشائه حتى الربع الأول من عام 2021 في مختلف مناطق المملكة 8176 موقعا. كما دخل عدد من المواقع الأثرية قائمة التراث العالمي التابعة لليونيسكو، وهي مدائن صالح والدرعية التاريخية، وجبة حائل التراثية، وجدة التاريخية، وواحة الأحساء. كذلك هناك مشروع ترميم وسط الرياض للمحافظة على مباني التراث العمراني وتعزيز الهوية التراثية، وترميم قرية المفتاحة في أبها لتكون وجهة سياحية ثقافية، أيضا تجرى حاليا أعمال الترميم في بلدة العلا القديمة لتحويلها إلى مزار سياحي، أيضا هناك عدد من المشاريع السياحية العالمية كمشروع القدية، ومشروع البحر الأحمر. وبعيدا عن أهميتها التاريخية وكونها مصدر إلهام ثقافي لا ينضب، من يقرأ مخرجات مشاريع تطوير واكتشاف المواقع والمدن السعودية سيجدها تتماهى نصا وروحا مع منطلقات ومستهدفات رؤية المملكة التي تسعى إلى تنويع الاقتصاد الوطني، وخفض الاعتماد على النفط، وذلك عبر تحريك الأعمال وجذب السياحة والاستثمارات ورؤوس الأموال الخارجية، بما يعود على الاقتصاد الوطني بعدد من الفوائد، منها القضاء على البطالة عبر توظيف الطاقات الشبابية وتوفير فرص عمل مناسبة لهم، وبالتالي ارتفاع دخل المواطن وزيادة الترفيه، إضافة إلى توفير الخدمات، ما ينعكس بالإيجاب على سعادة ورفاهية الحياة في السعودية للمواطنين والمقيمين، وتحسين نمط وجودة حياتهم. لا شك أن تحول المدن السعودية لمحركات اقتصادية قوية ومنتجة، سوف يكون عاملا مهما في العهد الاقتصادي الجديد للمملكة، والذي ستشهد خلاله السنوات المقبلة- بإذن الله- نقلة كبيرة في صناعة الترفيه والسياحة، المعززة بتوفر بنية تحتية نوعية تشمل كل المناطق، وسيكون للتنوع الطبيعي، والكنوز التاريخية، حضور في تشكيل الرؤية السياحية الوطنية المواكبة لمستهدفات رؤيتها الطموحة التي أعتقد أنها ستكون فرصة لتوفير مناشط عالمية تساهم في التعريف بمكامن القوة التاريخية والتراثية للمملكة، لتسير بخطى ثابتة نحو المستقبل، لتكون قادرة على اجتياز بوابة العصر الجديد، وتصبح جنبا إلى جنب مع دول العالم الحديثة والمتقدمة، وتتبوأ المكانة التي تليق بها، بوصفها دولة نموذج، ورائدة على المستويين الإقليمي والعالمي.