إنَّ أهم ما ترمي إليه الشريعةُ فى الأموال وفْرَتُها، ورواجُها، وتيسيرُ سُبُل الوصول إليها بالسويَّة بين الناس، قدر المستطاع، ويحصل ذلك بتيسير دوران المال فى أيدي الناس، بحالٍ يمتنع معه احتكارُه وكنزُه، فتحصل المنافسة التامَّة التي يتحقق بها تكافؤ الفرص. من أجل هذا المعنى، مَنَعَت الشريعةُ صورا من المعاملات المالية، تشترك فى علَّة واحدة، وهي تعطيل الرواج، حيث نهى الشارع الحكيم عن الاحتكار فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: «من احتكر فهو خاطئ»، حيث قال القاضي عياض: «أصلُ هذا مراعاةُ الضرر، فكل ما أضرَّ بالمسلمين وجب أن ينفى عنهم، فإذا كان شراء الشىء بالبلد يُغلي سعر البلد ويضر بالناس مُنِعَ المحتكر من شرائه، نظرا للمسلمين عليه». كما قال العلماء: إذا احتيج إلى طعام رجل واضطر الناس إليه أُلْزِمَ بيعه منهم، فمراعاة الضرر هى الأصل فى هذا، وإنما غلَّظ عليه الصلاة والسلام من أمر الاحتكار، لأنه مفسدةٌ لا تختصُّ بفردٍ واحد من الناس، بل يمتدُّ ضررها ليتعدَّى إلى جميع أفراد المجتمع، فيُفسد عليهم أسواقهم. ومن أجل مصلحة الرواج كان التسويق مطلوبا ومندوبا إليه، لِمَا يُفضي إليه مِن توفير السِّلَع فى الأسواق، فجعله القرآنُ الكريم ابتغاءً من فضل الله، وعبَّرَ بكلمة «فَضْلِ اللَّهِ»، كنايةً عن التجارة لأجل الرِّبح، ثم قَرَنَ التجارة بالجهاد فى سبيله، وذلك فى قوله تعالى: «عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ»، ففى التجارة تيسيرٌ لِما يَتعيَّش به الناس من السِّلَع، لتكون موفورةً فى الأسواق، ميسورةً للجميع. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي السِّلَع حتى تهبط الأسواق، ذلك أن المتلقَّى - وهو البائع - لا يعرف أسعار البلد، فقد ينفرد به بعضُ التُّجار فيشترون منه، فيتضرر بقية الناس، وقد قال سيدنا عبد الله بنُ عمر رضي الله عنه، كما فى البخاري: «كنَّا نَتلقَّى الرُّكبان فنشترى منهم الطعام، فنهانا النبيُّ عليه الصلاة والسلام أن نبيعه حتى نَبلُغ به سُوقَ الطعام». ونهى عليه الصلاة والسلام أنْ يبيع الحضريُّ للبدويِّ، فقال، كما فى صحيح مسلم: «لا يبع حاضرٌ لبادٍ، دعوا الناسَ يرزق الله بعضَهم مِن بعض»، فأهلُ القُرى والبادية يجهلون أسعار السوق، فمنْعُ الاحتكار شُرِعَ، مراعاةً لمصلحة الجماعة، وهم أهلُ السوق، وهو من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، كما قال الشاطبي، ولذا قال الفقيه يحيي بن عمر الكناني: «على صاحب السوق أن يأمر البدويين ألا يبيعوا ما معهم من طعام إلا فى أسواق المسلمين، حيث يدركه الضعيف والقويُّ والشيخ الكبير والعجوز»، فبقاؤه فى المخازن يجعله يقلُّ فى الأسواق، فيرتفع ثمنه. والمجتمع بمسيس الحاجة إلى تصدِّي التُّجار للتجارة بجلب البضائع للأسواق، ليجدَ الناسُ ضرورياتهم، وهي ما لا يستقيم حال الفرد أو الجماعة بدونه وحاجياتهم، وهي ما يُحتاج إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق، وتحسينياتهم، وهي ما يَحْسُن به حالُ الفرد أو الجماعة على سبيل التنعُّم والتَّرَفُّه. وقد روى الإمام مالك فى «الموطأ» أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه نبَّه إلى أهمِّية جلب البضائع وتسويقها بقوله: «أيُّما جالبٍ فذلك ضَيفُ عمر، فلْيَبِعْ كيف شاء الله، ولْيُمْسِك كيف شاء الله». وقد أجمع العلماءُ على أنه إذا فقدَ الناسُ طعاما كانوا مضطرِّين إليه، فلم يجدوه إلا عند واحدٍ منهم، فإن لهم أن يُجبروه على بيعه، بل ربما وقع التسامحُ فى بعض الأحكام مع غير المواطنين بتسهيل التجارة عليهم، حيث قال العز بن عبد السلام رحمه الله: «لأنَّا لو خالفنا ذلك لزهدوا فى التجارة إلى بلادنا، وانقطع ارتفاق المسلمين بما يجلبونه، مما يُحتاج إليه من أموال التجارة والأقوات وغير ذلك». أما جمود الأموال وتعطيلها بعدم تحريكها، فمذموم ومكروه، ولعلَّ فى فرض الزكاة فى الأموال ما يَدفع أصحابَها إلى تحريكها، خوفا من أنْ تَنقص. وقد قال سيدُنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما فى «الموطأ»: «اتَّجِروا فى أموال اليتامى، لا تأكلها الزكاة»، وقال الإمام مالك رضي الله عنه: «ومما يَعيبُه مَن مضى، ويرونه ظلمًا: مَنعُ التَّجْر»، فتنشيط التجارة بتوفير السلع، وتسهيل أسبابها، يُؤدي إلى تحقق المنافسة التامَّة، فتتكافأ الفرص أمام التُّجار، فينتفع التاجر والمواطن، ويقلُّ الغلاءُ على الناس، والبيع من العقود التي لا غنى للناس عنه، فقد خلق الله الإنسان محتاجا للغذاء والكساء، فنثر خيراته بين البشر، وجعل لكل واحد منهم اختصاصا، نسمِّيه «الملْك»، يُحصِّلُهُ الإنسان بوسيلتين: الأولى: ابتداءً كحيازة المباحات من الخيرات التي نثرها الله لعباده مثل استخراج المعادن كالذهب وغيره، واستخراج النَّفط، وكالصيد والاحتطاب وغير ذلك. الثانية: نقلًا بين الناس، ولها صورتان: الصورة الأولى: بغير بَدَل كالهدية والهبة وسائر التبرُّعات. الصورة الثانية: بالمبادلة كالبيع والإجارة، وجميع صور المعاوضات، ويجمعها لفظ «التجارة»، وقد أباحها الله، وأمر بالابتغاء من فضله. وقد وضعت الشريعة الإسلامية قانونا يضبط سُبُلَ نقْلِ المنافع وتبادلها بين الناس، فكان الأصل فى التبادل الإباحة، وإنما يَحرم التبادل ويُمنع إذا خرج عن قانون الشريعة، بحيث انطوى على جهالة أو سبب من الأسباب المفضية للمنازعة كالغرر أو الغبن أو الربا أو الغش، مما يُفسِد على الناس أسواقَهم، ويعود على التجارة بينهم بالاختلال، أو يعود على فائدة التبادل بالإبطال، فالأصل ألا يُسْمَحَ للتبادل أن يتمَّ إلا عبر أبواب العقود الصحيحة المعتبرة، التي ترجع على أصل التبادل بالرعاية والحفظ، وتُنَمِّي فى النفوس طموحها فى الارتقاء بالممتلكات، وعمارة الأرض، وتفرض على الجماعة النَّماء والازدهار فيما تكتسب من أرزاقها. وعقود المبادلة كثيرة كالإجارة، التي هي مبادلة مالٍ بمنفعة، والوكالة والجعالة، غير أنَّ أكثرها شيوعا عقدُ المبادلة على غير المنافع، وهو البيع، والأصل فيه الجواز، غير أن البيع لا يخلو من صورٍ فيها غبنٌ أو غررٌ أو جهالةٌ، وهي صور ممنوعة، تحتاج لتفصيل طويل، ليسْتَبين المباح من المحرم، وهو مغنى قوله سبحانه: «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ»، وتفصيلها أوضَحَه العلماءُ، وبسطوا القول فيه فيما كتبوه في أبواب المعاملات المالية، التي نحن فى مسيس الحاجة فى تبسيطها لعامَّة الناس.