في حرب لبنان عام 2006، كما في حرب غزة عام 2008، برز الاختلاف العربي بين من صنفوا «معتدلين» و«متطرفين». وصف بعض العواصم العربية نهج «حزب الله» آنذاك بأنه «مغامر» ووجه إليه اللوم لأنه افتعل تلك الحرب. وبعد وقف إطلاق النار أعلن الأمين العام لهذا «الحزب» تحقيق «النصر الإلهي» على إسرائيل، لكنه أطلق مقولته المعروفة «لو كنا نعلم أن عملية أسر الجنديين (الإسرائيليين) ستقود إلى هذه النتيجة (حجم القتلى والدمار والخسائر) لما قمنا بها». أما حروب غزة الثلاثة السابقة فشكل حصار القطاع والتضييق عليه والاحتكاكات وعمليات الاغتيال لكوادر حركة «حماس» والفصائل الأخرى الأسباب والدوافع الدائمة والمستمرة لتكرارها، وأضيف إليها في الحرب الأخيرة التضامن الطبيعي مع الدفاع عن القدس ونصرة أهالي حي الشيخ جراح. كانت فصائل غزة «تعلم» أن الثمن سيكون قاسياً، بشرياً وعمرانياً، ولم تتردد، فهذه كانت فرصتها التاريخية لإثبات أن «المقاومة المسلحة» لا تزال خيارا فلسطينيا ممكنا... مع «الشكر لإيران«. أسهمت الحروب من لبنان إلى سورية واليمن في تطوير دور «حزب الله» وخبراته وقدراته العسكرية، ولم تضعفه استهدافات إسرائيلية ولا عقوبات أمريكية، بل تضخم نفوذه السياسي الذي يمارسه بترهيب المجتمع وقضم شرعية الدولة في لبنان، وبالقتال تحت الراية الإيرانية في سورية، وحيثما تسعى طهران إلى تصدير «ثورتها». وتسير حركتا «حماس» و«الجهاد» على خطى «حزب الله» وتعولان مثله على الدعم والتسليح الإيرانيين، مع شيء من الخصوصية أبقته طهران ل«إخوانية حماس»، وتنشطان فقط في الإطار الفلسطيني. ومع أن الحركتين متماهيتان إلى حد كبير في مفهوم «المقاومة»، فإن «الجهاد» لا تبدي اهتماماً بالسلطة والانتخابات، فيما توظف «حماس» انقلابها على السلطة وتجربتها في إدارة قطاع غزة للاستثمار في مستقبلها السياسي وانتزاع القيادة الفلسطينية. عدا الإشادة والتبريك، كانت طهران ولا تزال مقتصدة في التعليق على حرب غزة الأخيرة، ولا يعزا ذلك إلى تركيزها على مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي أو تحضيرها للمرحلة التالية بعد الانتخابات الرئاسية، بل إلى وجودها في غرفة العمليات التي أدارت تلك الحرب وارتياحها إلى أن النتائج التي تحققت تمضي في الاتجاه الذي تريده. لكنها تركت ل«حزب الله» و«حماس» تحديد ملامح المواجهة المقبلة التي يؤكدان أن رقعتها ستكون أوسع وبطموحات أكبر من مجرد تهشيم هيبة إسرائيل وتعريضها لخسائر محدودة لكن مهمة مادياً ومعنوياً. كان نصر الله، الأمين العام ل«الحزب»، لوح أكثر من مرة، ولأسباب مختلفة، بفتح جبهات عدة وإشعال المنطقة، ولم تعد أوساط «الحزب» تخفي، أخيراً، إمكان استدراج إسرائيل إلى حرب على أكثر من جبهة في آن. وكان يحيى السنوار، رئيس «حماس»، مباشراً بقوله إن «شكل الشرق الأوسط سيتغير إذا عادت المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي». ولم يعد «محور الممانعة والمقاومة» الإيراني يشير إلى موازين القوى ومعادلات الردع فحسب، بل يتحدث بإصرار وثقة عن «زوال إسرائيل». عام 2000 كان مفصليا في جعل إيران الطرف الآخر في مواجهة إسرائيل، فمن جهة أعلن جنوبلبنان محررا بعد الانسحاب الإسرائيلي، بشيء من التزامن مع سلسلة أحداث: فشل محادثات كامب ديفيد، وفاة حافظ الأسد وانقلاب المسار في سورية من حليف صعب إلى حليف يمكن تسييره، وبلورة نمط من التحالف مع «حماس» على خلفية اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثالثة التي كرست الفشل المبكر للمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية. وفي العام التالي، 2001، باشر جورج بوش الابن وأرييل شارون عهديهما وكان الأخير دشن اقتحامات المسجد الأقصى ثم أسهمت «هجمات 11 سبتمبر» وتداعياتها في شحذ تصميمه على الدفن شبه النهائي لاتفاقات أوسلو و«عملية السلام»، بدعم من بوش وضمانات شجعته لاحقاً على خطوتين خطيرتين: تصفية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والانسحاب كلياً من قطاع غزة لفصله عن الضفة تمهيداً لعزله عن الأراضي الفلسطينية... كل ذلك كان يراكم أوراقاً لإيران ويساعدها على تطويرها مشروعها الشرق أوسطي، وكل ما حدث لاحقاً من حروب ومواجهات وصولاً حتى إلى انتفاضات «الربيع العربي» وتحولات زادت العالم العربي ضعفاً، كان يضيف إلى أوراقها، بل اعتبرت الاتفاق النووي (2015) «انتصاراً» جيرته لدعم مجمل سياساتها الإقليمية. كانت إيران استغلت حقبة باراك أوباما لتمرير كثير من خططها بالتوازي مع المفاوضات التي توصلت إلى ذلك الاتفاق، إذ طرحت نفسها جزءاً عضوياً في «محاربة الإرهاب» في العراق وأنجزت الانقلاب الحوثي على الشرعية في اليمن وفرضت معادلتها (مع روسيا) في سورية واستكملت سيطرتها (عبر «حزب الله») على لبنان... في الوقت نفسه فشل أوباما في إعادة إسرائيل إلى «عملية السلام» وجاءت «صفقات ترمب» وضغوطه لزعزعة السلطة الفلسطينية والالتزام العربي حيال فلسطين، وقد لعب ذلك عملياً لعبة إيران وسعيها إلى الاستئثار ب«الملف الفلسطيني» لاستثماره إستراتيجيا على حساب العرب والفلسطينيين معاً. تتوالى المؤشرات في مفاوضات فيينا إلى أن طهران ترى في ولاية جو بايدن فرصة مواتية لمصلحتها، وليس لضبطها أو تغيير سلوكها. وإذا استمرت الخلافات وازدادت بين إدارة بايدن وإسرائيل في الشأنين النووي والفلسطيني فإن طهران تعتبر نفسها كاسبة، وهي ليست متعجلة لتقديم أي تنازل إلى واشنطن بل تتوقع منها تنازلات، كأن تقبل إيران شريكا في أزمات الشرق الأوسط وحلولها المفترضة. كانت مصر أنذرت، أخيرا، بأنها لا تقبل أي استغلال إيراني لحرب غزة، وكانت واشنطن لجأت إلى القنوات التقليدية (دول عرب الاعتدال) لاحتواء الوضع الناجم عن هذه الحرب، متجاهلة أنها وإسرائيل سبق أن خذلتا هؤلاء المعتدلين الذين يستطيعون المساهمة في معالجة الأزمة سياسياً، شرط أن يتوفر التزام أمريكي – إسرائيلي جدي بتلبية نشطة وسريعة لمتطلبات الحل السلمي الحقيقي. هذا يحتاج إلى طرف/ «شريك» إسرائيلي واقعي ومعتدل، ولا وجود حاليا إلا للمتطرفين سياسيا وعنصريا ودينيا في إسرائيل، بدليل أن نفتالي بينيت مرشح كبديل من بنيامين نتنياهو. ومع هؤلاء في إسرائيل من جهة ومتشددي إيران من جهة أخرى، قد تستشف البراجماتية الأمريكية أن هاتين الدولتين توفران فرصة لعقد «سلام فلسطيني» بين المتطرفين، بشرط توافقهما وإنهاء المواجهة بينهما. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»