في عسير تذهلك تلك العلاقة الحميمة والأبدية بين الإنسان والشجرة، يعاملها كمخلوق بشري، ولا يتردد عن تسمية بناته بأسماء تلك النباتات الشجرية «ريحانة، زهرة، خضرا، رمانة» وغيرها من المسميات، ولا يلام، فهي معه في الحقل والبيت والجبل والوادي، فعسير تستحوذ على 70 % من غطاء المملكة النباتي، ولكن هناك سيدة خضراء يعشقها لا تكتهل لو اكتهل الزمان، وعصفت بها الدهور والعصور والأيام، هي شجرة مستأنسة وعتيقة، عاشقة ومعشوقة، تبادله الحب والوجد والذاكرة، العلاقة بينها وبين الناس في عسير، مثل العلاقة ما بين العين وماء العين. إنها «العرعرة».. قبل 40 عاما أو أكثر شاهدت جثة ميت تحت صخرة، بجبل «قهرة السرومة» في الجزء الشمالي الشرقي من جبل تهلل بقرية السودة، وقد تم البناء عليه بطريقة «الشدف» أي البناء المحكم المسمى «الموحش» باستخدام الطين أو أي مواد أخرى، سألت بعض المعمرين عن ذلك الميت، فأخبروني أنه حاج قبل عشرات السنين، كان في طريقه مع جماعته عائدا إلى دياره، وأدركته المنية قبل هبوطهم إلى تهامة، ولعدم قدرتهم على حمل الجثة لصعوبة المسالك، فقد اكتفوا بدفنه بتلك الطريقة السائدة في حينها، الجثة لم تتحلل أو تتلاشَ، بل أصابها الضمور، وقد أكد لي ذلك المشهد الأستاذ «عبدالعزيز فؤاد العسيري» وتلك الرواية التي سمعها من والده رحمه الله، سؤال محير ما هو السر الذي جعل تلك الجثة تبقى بصورتها التي رأيتها، ولم تمتد لها يد البلى وعوامل التعرية بكل قسوتها وضراوتها المناخية؟ وما الذي أبقى عليها وعلى أصحاب «الكهف» في شرحة بقرية تمنية، وبالذات في جبلي «المخرطم وإبران» حيث لم تتحلل أجساد أسرة كاملة، كانت داخل الغار ولعشرات السنوات؟ وقد شاهدت صورتهم في كتاب «في ربوع عسير» لمؤلفه محمد عمر رفيع، وقد أكد لي الشاعر علي حسن آل شعيب الشهراني، ما ذكره رفيع كونه أي الشهراني، شارك في دفن تلك الجثامين الموزعة في الغيران عام 1369 من الهجرة، وقد استرعى انتباهه ضخامة أجسادهم، وفسر الشهراني وجود هذه الجثامين في الكهوف، نتيجة انتشار الأمراض السارية في ذلك العصر، ولجوء أهل القرى إلى طريقة الحجر والعزل للمرضى في الغيران، ووضع قربة الماء بجوارهم، حيث تنتظر القرية شفاء المريض أو موته، السؤال الملح ما هو التفسير العلمي لبقاء هذه الجثامين عشرات إن لم تكن مئات السنوات، دون تحلل أو اضمحلال، سألت كثيرا ولم أجد إجابة شافية، إلا توقعا مني قد يكون صحيحا وقد يكون غير ذلك، إنها شجرة «العرعر» التي تحيط بكل شبر وموضع في هذه القرى. فقد أظهرت دراسة علمية جديدة، أن قدماء المصريين كانوا يستخدمون خلطات معقدة من المستخرجات النباتية، لتحنيط موتاهم، وقد أجرى باحثون بريطانيون تحاليل للمواد التي استخدمها المصريون في تحنيط «مومياواتهم» وأظهرت التحاليل وجود مواد نادرة وثمينة هي نبات شجرة «العرعر» الذي كان يستورد من خارج مصر،وقد ورد ذكر «العرعر» في وصفات فرعونية، تقول مخطوطة بردية «إيبرس» «لقد استخدم الفراعنة العرعر في التحنيط والطب» . وتقول الدراسات العلمية المخبرية «مع تطور العقل البشري كان لشجر العرعر أثر في تطور الحركة الطبية على مر التاريخ» . ولكن السؤال المضني، هل نجحت الجهود المحلية والدولية في إنقاذ شجرة العرعر في عسير من الهلاك والموت تحت وطأة مرض «الموت القمي» ؟. تقول صحيفة «آفاق» الصادرة عن جامعة الملك خالد، قبل فترة زمنية قريبة، وعلى لسان الدكتور عصام الدين وراق، من مركز الأمير سلطان بن عبدالعزيز للدراسات والبحوث البيئية والسياحية «أنعى 50% من أشجار العرعر في عسير بعد إصابتها بمرض ووباء «المرض القمي» أو الموت التراجعي، على الرغم من أنه أي العرعر يمثل 95% من الغطاء الشجري في المناطق المرتفعة، وحيث يبدأ الموت بتغير لون الأوراق الإبرية من الأخضر إلى البني، ثم تساقطها نتيجة لعوامل إجهادية كالشيخوخة، والفطريات والتغيرات المناخية، وانجراف التربة، ودمار المساطب، وأدعو إلى المزيد من الدراسات واقترح معالجات إضافية، تحد من ظاهرة الموت القمي والحد منها، وذلك بتضافر الجهود بين الجهات التنفيذية والبحثية، فشجرة العرعر أسهمت في تشكيل المجتمعات الحيوية، وبيئة الغابات الطبيعية، وفقدانها يمثل فقدانا لقاعدة وراثية ضخمة، لأنها تشكل أمنا بيئيا للأجيال القادمة، وسوف يؤثر غيابها على النظم الشجرية وعلى السياحة في منطقة عسير» . وتمنى الباحث أن تقوم جامعة الملك خالد، بإجراء البحوث والدراسات وإشراك المجتمعات المحلية، للمحافظة على هذا الإرث الوطني، والتنوع الأحيائي في منطقة عسير.