ونتساءل في البداية: ما هو التراث؟ ولعلي أصدم الكثير من القراء عندما أجيب: بأنه لا يوجد تراث في ذاته! فالتراث هو قراءتنا له، هو موقفنا منه، وهو توظيفنا له! لست أقصد من هذا أنني أنفي أو ألغي الحقيقة الذاتية للتراث، أو أتجاهل أو أتغافل عن تحققه الموضوعي بالنسبة إلينا! إن التراث – بغير شك – موجود، قائم، متحقق بالفعل موضعيا وماديا في نص في فكر في معرفة عملية في ممارسة في سلوك، في عمارة في بناء في نظام حكم، في أشكال تعبيرية قولية أو حركية أو مادية، في أعراف في عادات في آداب شعبية في خبرة، إلى غير ذلك. والتراث موجود قائم يتحقق كذلك بالفعل زمنيا في لحظة تاريخية – اجتماعية معينة. وتتراكم هذه اللحظات الزمنية وتتصل لتشكل تاريخنا القومي الثقافي – التراثي العام، على أن هذا الوجود التراثي المتحقق ماديا وزمانيا وتاريخيا ينتسب إلى الماضي، ولهذا فهو تراث، أي أنه أثر، حتى وإن بقيت معالمه ماثلة قائمة أمامنا على نحو مادي أو معنى، على أنه ليس فعلا أقوم به، بممارسته، بتحقيقه ابتداء وإنما هو تحقق سابق على وجودي، ولهذا فحقيقته في ذاتها مشروطة بمدى معرفتي بها، وطبيعة موقفي منها وتوظيفي لها. قد أتجاهل التراث أو أكرره حرفيا، أو أفسره، أو أستلهمه، أو أهول من شأنه أو أهون منه، وقد أراه على هذا النحو أو ذاك. وفي أي موقف من هذه المواقف يفقد حقيقته الذاتية المرتبطة بغير شك بسياقه الزمني التاريخي والاجتماعي الخاص، ويصبح جزءا من زمني من سياق حاضري الخاص! ولهذا فإن الموقف من التراث ليس موقفا من الماضي، وإنما هو موقف من الحاضر! فبحسب موقفي من الحاضر يكون موقفي من الماضي وليس العكس كما يقال أو كما يُظن!. إن الماضي هو سندي وسلاحي لمشروعية حاضري وبحسب معرفتي بحاضري وموقفي من حاضري تكون معرفتي وموقفي من الماضي، ولست أقصد الحاضر الذي تعيشه أنت الآن وأعيشه أنا وإنما أقصد كل حاضر، فكل لحظة من لحظات التاريخ الإنساني عامة والعربي خاصة هي ماضٍ كان حاضراً وهي حاضر أصبح ماضياً. وطوال هذا الماضي - الحاضر والحاضر – الماضي كانت هناك دائما إضافات وممارسات ومنجزات مادية وفكرية وثقافية وروحية تصبح تراثا مع كل انتقال لها من حاضر إلى ماضٍ، أي مع كل حاضر جديد بالنسبة إليها. وكانت هناك دائما كذلك مواقف جديدة ومتجددة من هذه الإضافات التراثية المتراكمة زمنيا، مع كل حاضر جديد في المستقبل، وهكذا تتضاعف وتتراكم الإضافات التراثية وتتضاعف وتتراكم معها المواقف من هذه الإضافات، وهذه المواقف تصبح بدورها مع الزمن إضافات تراثية! وعندما نتحدث عن التراكم والإضافة في الزمن لا نتحدث عن آنات زمنية مفرغة، تحرك داخلها التراكمات والإضافات التراثية حركة خطية أو خيطية طولية مسطحة، وإنما نتحدث عن تاريخ أي نتحدث عن كثافة إنسانية – اجتماعية، نتحدث عن أنظمة حكم، وأنسقة علاقات اجتماعية وأنسقة قيم وأفكار ومشاعر، نتحدث عن صراعات ومصادمات مصالح في مستوى الواقع الاجتماعي العملي، وفي مستوى الثقافات النظرية والروحية والإبداعية على السواء، نتحدث عن عوامل داخلية وتأثيرات خارجية، عن دوافع ذاتية وشروط موضوعية، عن قوى فردية وأخرى مجتمعية، نتحدث عن أفعال وردود أفعال وتفاعلات، عن استمرار واتصال وعن تقطع وانفصال مرة أخرى نتحدث عن التاريخ. وبهذا المعنى الحي الصراعي المتحرك للتاريخ وفي إطاره ومن عناصره العينية معطياته المشخصة تتشكل الإضافات التراثية وتتحدد المواقف من هذه الإضافات، التي تصبح بدورها إضافات جديدة ومن هذه الإضافات المتجددة يتشكل ويتحدد كذلك التاريخ نفسه! نستخلص من هذا كله: أولا: أن الإضافات التراثية المتجددة، تختلف دلالاتها باختلاف المراحل واللحظات التاريخية والاجتماعية، وكذلك الأمر بالنسبة للمواقف من هذه الإضافات، فإنها تختلف كذلك باختلاف هذه المراحل واللحظات، ولهذا فإن كل إضافة تراثية هي نفسها موقف من إضافة تراثية سابقة عليها، وهي موضوع لموقف تراثي لاحق عليها سيصبح بدوره موضوعا لموقف أي إضافة تراثية.. وهكذا إلى غير حد. ونستخلص من هذا ثانيا: أنه لا يوجد شيء واحد أو منجز واحد من منجزات الماضي التاريخي، يمكن أن نقصر عليه كلمة تراث، بل هناك إضافات تراثية متعددة ومختلفة ومتنوعة، فليس التراث الديني وحده – كما يقلصه البعض – وليس هو الثقافة الرسمية السائدة وحدها كما يقول البعض، كذلك بل هو – في تقديري – منجزات الماضي كله، بكل عناصرها ومحاورها الدينية، والروحية والوجدانية والعلمية والأدبية والفنية والسلطوية والشعبية والنظرية العملية والإدارية والتنظيمية والعمرانية إلى غير ذلك. ونستخلص من هذا كذلك ثالثا: أن العلاقة بين هذه المنجزات أو الإضافات التراثية لا تتسم بالاستواء والتوازن أو التوازي في المستوى الأفقي لمرحلة تاريخية معينة، أو لعصر أو مجتمع أو جيل محدد، ولا تتسم بالإضافة التراكمية التراتبية المحايدة في المستوى العمودي بين المراحل التاريخية المتوالية المتتابعة، وإنما هي سواء في المستوى الأفقي أو المستوى العمودي علاقة اختلاف ومغايرة وصراع، على أن الصراع على المستوى العمودي هو بعد أساسي من أبعاد الصراع على المستوى الأفقي، بمعنى أنه صراع لامتلاك الحاضر وليس صراعا لامتلاك الماضي، وإنما لتوظيف الماضي لصالح امتلاك الحاضر ويمنحه مشروعية، عميقة تراثية تاريخية. ومن هذه الاستخلاصات الثلاثة تبرز الطبيعة الأيديولوجية للتراث، أو بوجه أدق – للموقف من التراث، وتبرز هذه الطبيعة في رؤيتين محوريتين: الأولى هي الرؤية التاريخية والثانية هي الرؤية الاجتماعية وإن تداخلت الرؤيتان في النهاية.