لكل لغات العالم ومنها العربية آدابها ومأثوراتها اللسانية والبيانية التي منها الأمثال التي تعد من أصدق فنون الأدب وأصفى المرايا التي تعكس عادات أهلها وثقافاتهم وحياتهم، ومدى حضارتهم وسلامة أذواقهم أو فسادها فمثل: «لا يفل الحديد إلا الحديد» يدل على حضارة أهله وأنهم يعرفون الصناعات المتخذة من الحديد، ومثل: «ما حك جلدك مثل ظفرك» يدل على أن أصحابه قليلو النظافة، ولهذا يحكون جلدهم، والمثل البنغالي: الراقصة العرجاء تتهم المسرح بالانحدار، يدل على رهافة الإحساس وحسن الذوق والاهتمام بالفن. والمثل الصيني: ألف ريال لا تشتري بها ضحكة واحدة، يدل على التفاؤل والزهد في المال. والمثل العامي الحجازي: أكل وراحة يربو ملاحة، يدل على الترف والنعيم، والمثل غير الحكمة والكناية وإن كان يشملها أحيانا فهو القول السائر بين الناس، المثل بمضربه أي الحالة الأصلية التي ورد فيها الكلام، وألفاظ الأمثال لا تغير تذكيرا أو تأنيثا وإفرادا وتثنية وجمعا، بل ينظر فيها دائما إلى مورد المثل أي أصله والمثل – أيضاً -: الحجة. وأما الحكمة فهي الكلام الموافق للحق وصواب الأمر وسداده والتفكير الذي يدل على السداد، وكل كلام وجيز يجمع فيه بعض تجارب الحياة النافعة، والحكمة في معناها العملي: القدرة على حل المشكلات، وهناك معان للحكمة منها: العقل والعدل والنصيحة والعلم والحلم. والكناية – في اللغة -: ما يتكلم به الإنسان ويريد به غيره، وفي الاصطلاح لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى، مثل علي طويل النجاد، والنجاد: حمائل السيف، وطويل النجاد: طويل حمائل السيف، وهذا غير مقصود، وإنما أريد أن عليا طويل القامة، وطبيعي أن طول النجاد يستلزم طول القامة بل كل منهما ملازم للآخر. فالمثل والحكمة والكناية أقوال سائرة ولكن لكل منها تعريفه الذي يميزه عن الآخرين، إلا أن المثل قد يضم الحكمة والكناية اللتين لا يمكن أن تضماه، وفي جيل أبي وإخوتي الذين كانوا يكبرونني كانت أحاديثهم الدارجة لا تخلو من الأمثال، وكذلك جيلنا كان الحديث لا يخلو من الأمثال. أما أجيال هذه الأيام في كل أقطار العروبة لا يعرفون الأمثال، ولهذا خلت كل أحاديثهم منها ولا يفهمون معنى المثل إذا طرق سمعهم سواء أكان المثل فصيحا أم عاميا. وكثير من الشباب من خريجي الجامعات لا يعرفون الأمثال الفصيحة لأنها لا تدرس، فإذا جاء المثل في كتاب أو مثال وشرحه الأستاذ للطالب عرفه، وقد ينساه لأن عدوى ظاهرة انزواء الأمثال من الألسنة وإمحائها من الذاكرة أصابت الشباب جميعا. وليس هذا الأمر بمقصور على شباب بلادنا بل هي ظاهرة عامة بين شباب العالم العربي كله، ونحن أصابتنا العدوى أيضا فلم نعد نستعمل الأمثال في أحاديثنا، لأن من نحدثهم من الشباب لا يفهمون معانيها فنضطر إلى إخلاء أحاديثنا منها، حتى لا نستعمل ما لا معنى له، وإن مخاطبة الناس على قدر عقولهم من مكارم الأخلاق، وهكذا خلت اللغة العامية من الأمثال، فخلت من جانب رائع من جوانبها الأدبية، وألف بعض الأدباء في مختلف أقطار العربية كتبا في الأمثال العامية جمعت طائفة كبيرة منها، وأذكر على سبيل المثال الأستاذ حسين عبدالله محضر – رحمه الله – الذي ألف كتابا لطيفا في أمثال الحجاز العامية، وإن كان موته ترك فراغا لأمثال عامية كثيرة في حاجة إلى من يجمعها ويدونها فيملأ ذلك الفراغ. وأنا وإن كنت خصما للعامية إلا أنني أستثني من خصومتي إياها الأمثال لأنها مرآة تعكس حياتنا الاجتماعية والأدبية والثقافية وعاداتنا وتقاليدنا التي لم ندونها فدونتها الأمثال، وكثير من أمثالنا العامية من الفصحى حرفتها العامية، وعندما يقوم الدارسون بجمع الأمثال العامية الحجازية ودراستها ومقارنتها بالأمثال الفصيحة فسيجدون طائفة كبيرة منها في العامية، التي أخذت من الفصحى آلاف الكلمات وحرفت بعضها كما حرفت ما أخذت الفصحى، وذات سنة عنت لي فكرة جمع أمثال الحجاز العامية ومقارنتها بأمثال شعوب الأمة العربية كالعراق ومصر والأردن والسودان وسورية والبحرين وتونس، ثم ذكر ما يقابله من أمثال الفصحى، وذكرت من أمثار بعض الأقطار الإسلامية والأوروبية طائفة طيبة، وقطعت في العمل شوطا ثم تركته ثم ضاعت الأوراق ففقدت بحثا لطيفا، وفي بلادنا من جمعوا الأمثال العامية، فبعض أدباء نجد جمعوا أمثالها وكذلك الحجاز، ومن الدراسات في باب الأمثال ما كتبه الدكتور عمر الطيب الساسي في الأمثال الألمانية مع ذكر ما يقابلها في العربية. ودار الحديث غير مرة في الأمثال، وكان الدكتور أحمد خالد البدلي حاضرا وذكر من حافظته طائفة من الأمثال الفارسية وما يقابلها من الأمثال العربية الفصيحة. وما دام شباب هذه الأيام منصرفين عن الأمثال كل الانصراف فإن من الخير تدوين الأمثال العامية في الحجاز حاضرة وبادية، قبل أن يمحو النسيان منها ما نحن بحاجة إلى الاستدلال به على لهجات أهل الحجاز، وما فيها من الغريب الفصيح، وعلى العادات والقيم الأخلاقية وآداب اللياقة والسلوك، وعلى ثقافة العامة وأفكارهم وحياتهم الاجتماعية، وعلى التطور وما حدث في المجتمع من تغيير كبير قضى على كثير من الموروثات الأصيلة، ونحن الذين أدركنا الحياة منذ 50 سنة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية 1939م بسنوات، ندرك هذا التغير الذي تناول مجتمعنا من جميع نواحيه الفكرية والثقافية والاجتماعية حتى أنسانا الجديد ما سبقه، هندسة بيوتنا تغيرت فنقلنا هندسة الغرب التي لا تصلح لبلادنا المسلمة، فعلى سبيل المثال: الشرفات لا تتفق مع ديننا فلا نحن الرجال نستطيع أن نجلس فيها حتى لا نطلع إلى الناس من نوافذ بيوتهم، ولا النساء بمستطيعات الجلوس في الشرفات لنظام الحجاب المتبع. وقد فطن العامة لمثل هذه الأمور فقالوا في أمثالهم: كل عند العرب صابون ودردب وليس كل كويس. وأنا لا أمنع الشرفة فهي شرف للبيت ولكن لا نعدم من الانتفاع بالشرفات إذا كان لدى مهندسينا فكر مبدع وبراعة وألمعية.