هل سبق أن أشرت بكتاب محدد لصديق ما، بحيث وصفت له الكتاب بأجمل العبارات، وشرحت له كيف لامس ذلك الكتاب شغاف قلبك وروحك، بل وكيف غيَّر من مفاهيمك وجعلك ترى العالم من منظور آخر؟ فيشعر صديقك بعد ذلك بالحماس الشديد لاقتناء الكتاب الموصى به، وبعد حين من قراءة الكتاب، يعود إليك بخيبة ليخبرك بالتالي: «لم يعجبني الكتاب!!» وقد يصعقك أكثر بقوله: «كان الكتاب مملاً، مما اضطرني للتوقف عن قراءته!». حينها تصاب أنت بالحيرة، وقد ينتهي بينكما الحوار إلى النتيجة التي تقول إن «ذوقك» يختلف عن «ذوقه» في اختيار الكتب والمواضيع. الاندماج السردي واللغة علقت الباحثة السعودية بجامعة كومبلوتينسي الإسبانية، عبير حكمي على المشهد السابق بالقول: إن الأمر لا يتعلق بمسألة اختلاف «الأذواق» من شخص للآخر، إنما السبب الحقيقي وراء كل ذلك، هو سبب إدراكي ونفسي يتمثل في مفهوم «الاندماج السردي». أضافت حكمي، أن كلاً من وظيفتي علم اللغة النفسي وعلم اللغة الإدراكي تتداخل بهذا المفهوم اللساني/الإنساني من عدة جوانب لغوية وإدراكية ونفسية، مبينةً أن صلب الأمر يكمن في ماهية مفهوم «الإسقاط النفسي» للمتلقي عند دخوله طرفاً خلال أي خطاب لغوي سواءً أكان مقصوصة قصيرة، بيت شعر، رواية، إعلان دعائي في التلفاز أو حتى «تغريدة» عبر منصة تويتر. المنتج اللغوي أشارت عبير حكمي، إلى أن التفاعل الإنساني مع المنتجات اللغوية يخضع لعدة عمليات عقلية ونفسية تؤثر في عملية الإنتاج اللغوي نفسها مؤثرة بذلك في المنتج اللغوي النهائي. كما أن الأمر لا يتوقف على هذا المستوى فقط، بل يتعداه لمُتلقي المنتج اللغوي من قارئ أو مستمع؛ فمُتلقي الخطاب اللغوي أيضا يمر بعمليات عقلية ونفسية يحفزها المنتج اللغوي الذي يتفاعل معه بذاته. المزج المفاهيمي المزج المفاهيمي نظرية تعتمد على الافتراض الأساسي بأننا جميعاً -كبشر- يفترض بنا فهم جميع أنواع التمثيلات الرمزية من خلال إنشاء روابط مفاهيمية بين بعض المميزات في المساحات العقلية حين يحصل التواصل بين البشر. ولأن التواصل البشري يحصل عن طريق اللغة، واللغة في أصلها عبارة عن «مجموعة من الرموز»، فهي بدورها ترميز لمفاهيم محددة، يتشارك في إدراكها وفهمها جميع البشر بلا استثناء. ومثال ذلك، عندما نقول (سافر أحمد بالطائرة) فإن البشر بمختلف لغاتهم سيفهمون المقصد والمعنى من كل رمز لُغوي تحمله هذه الجملة؛ وبهذا المزج المفاهيمي يحصل الإسقاط النفسي اللاوعي المؤدي لعملية أخرى هي عملية الاندماج السردي مع المنتج اللغوي. المعنى النفسي للخطاب وأكدت حكمي، أن هذا الإسقاط النفسي يستثير بدوره شبكة مفهوم الذات الخاصة بمُتلقي الخطاب اللغوي سواءً أكان مستمعاً أو قارءًا له. وبالتالي تتحفز الشبكة النفسية للمتلقي بفعل السمات اللغوية المحددة الخاصة في الخطاب اللغوي، فيعكس بدوره انطباعاته النفسية على المعنى الذي يُعطيه للخطاب وبالتالي يحدث الاندماج السردي. وأضافت حكمي، أن العرض العلمي لمفهوم «الاندماج السردي» لا يوضح لنا فقط سبب اختلاف الناس الدائم في اختيار كاتبهم أو كتابهم المفضل وسبب اختلافهم حول مغزى ومقصد الخبر أو المادة الصحفية بعد قرأتها، وإنما يوضح لنا أن اللغة باختلاف صورها منطوقة ومكتوبة، يمكن أن تُظهر حقيقة مكامن النفس الخفية حين يعجز الإنسان عن التعبير عن مشاعره الجياشة أو اضطراباته النفسية. وأن مكامن النفس يمكن الوصول لها والتعرف عليها من خلال دراسة لغة السرد والاستجابة لها. نرجسية أم بارانويا من جهته، يرى المختص في علم اللغويات التطبيقية بجامعة المسيسبي الأمريكية، عبدالله الحبابي أن عملية الإسقاط النفسي ليست بالضرورة دالةً على مسألة التخفي والتقمص لحيلة دفاعية عن ذوق أو غيره في شكلها السلبي، إذ ليس من الضرورة أن تنشأ عن عملية «الإنكار الذاتي» التي عبر عنها سيجموند فرويد بأنها من الحيل اللاشعورية للدفاع عن «الأنوية» والتي بمقتضاها يقوم الشخص بمحاولة إسقاط رغباته وميوله الذاتية إلى الشخص الآخر» مستمداً ذلك من أفكاره وذوقه ومنهجه في قبول ورفض الأشياء، استناداً على ما يختزنه من خبراته السلبية أحيانا. وأضاف: أنه وبعيداً عن مسألتي النرجسية أو «البارانوايا» يعد الإسقاط النفسي ضرباً من ضروب الخبرات الشخصية ونوعاً من ممارسة الشخص لعميلة الإقناع والنصح الذي يعتقد من خلاله المتحدث/الناصح صدق مضمونه المصحوب بالرغبة في تمرير ذلك للآخرين دون الولوج في مسألة المفضل وغير المفضل لدى المتلقي. الاندماج السردي: هو عملية اندماج الإنسان مع النص السردي عبر التفاعل مع شخوص القصة وكاتبها. المزج المفاهيمي: عملية الاشتراك في فهم السمات اللغوية من منظور المتلقي ومنظور النص. الإسقاط النفسي: الاندماج الشخصي مع/خلال النص لعكس المفاهيم الضمنية له على مكنونات شخصه ونظرته لذاته.