أعني أنها الرؤية التي تسيء الظن بالبشر إلى أبعد حد، وتتصورهم مجموعة من الوحوش في غابة. هي الحياة الدنيا التي نحياها، والتي هي صراع وحشي بين البشر، خصوصاً هؤلاء الذين يفتقدون بشريتهم أو إنسانيتهم، فيتحولون إلى كائنات متوحشة كالحيوانات المفترسة، يفترس بعضها البعض وينكَّل بعضها الآخر، فهي وحوش في غابة لا مجال فيها إلا للقوة المتوحشة التي لا تعرف أي معنى من معاني الإنسانية أو الرحمة أو حتى المروءة، التي قد تجعل بعضهم يعطف على البعض، وهم الذين يجعلون الإنسان محاطاً بسوء الظن تغلب عليه السوداوية، وعندما يتحول العالم إلى غابة في عيني الشاعر، ولا يرى منها إلا هذا الجانب الوحشي القاتم، تغدو الرؤية المأساوية أمراً حتمَّياً، حاضرة في شعره فارضة نفسها على قصائده. فعندما نقرأ-مثلاً - في شعر المغفور له بإذن الله بندر بن سرور «ما عاد أبي من سود الأيام تعليم عقب العذاباللي كلاني جحيمه ولو تصفي الدنيا عليّ الملازيم ماعاد أدور من وراها غنيمه» ندرك بعضا من هذه الرؤية المأساوية في ملمح من ملامحها، كما لو كان غياب الحق هو الوجه الآخر لغياب العدل، وغياب العدل هو الناتج الطبيعي لغياب الحرية، وغياب الحرية هو اللازمة المنطقية لغياب معنى الجمال، وعندما يخلو العالم من قيم الجمال والحرية والعدل، فما الذي فيه كي يغدو عالماً إنسانياً ؟! إنه يفقد إنسانيته مافقد لوازمها، إن الحذر والفطنة عاملان أساسيان في هذه الحياة التي لا تخلو من المفاجآت، وليس سوء الظن إلا مشقة يحملها الإنسان في صدره، وفي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث...) متفق عليه.