من أكبر الانتصارات التي تعتز بها دور النشر في الغرب -خاصة في إنجلترا- عثورها في قعر صندوق مترب مضت عليه أجيال لدى أسرة، وهو منسيٌّ في مخزن الكراكيب تحت حنية السقف على مذكرات كتبها رجل مغمور من أوساط الناس، لا شأن له بالسياسة أو الفلسفة أو النقد الأدبي، وإنما جعل كل همه يوما بعد يوم أن يسجل فيها مشترياته من السوق، وحوادث الحي والجيران والإشاعات الرائجة، وأنباء القضايا المثيرة، ووصفه لأمسياته في الحانات والملاهي.. إنه كتب هذه المذكرات لنفسه لا لأحد غيره، هيهات أن يخطر بباله أنها ستطبع وتنشر في يوم من الأيام، ويتلقف كثير من الناس هذه المذكرات بفرح شديد ويقرؤونها بلهفة كبيرة، فهم يتندرون أولا بفروق الأسعار -والبركة في التضخم النقدي- بين الماضي والحاضر، فيقهقهون حين يعلمون مثلا أن الكاتب قد تناول عشاءه في مطعم فخم لقاء نصف شلن، ويجدون لذة كبيرة في معرفة ماذا كان يأكل ويشرب، وأسماء الأماكن التي كان لها صيت واندثرت، والشوارع التي اختفت، وألفاظ بطلت أو تغير مدلولها، وعادات فقدت قداستها وأصبح ذكرها لا يثير إلا الابتسام، وأمثلة على أذواق الناس في الملبس... إلخ. تقدم لهم هذه المذكرات صورة صادقة -بغير رتوش- لأنها بريئة ساذجة لم تشبها فلسفة ولم تفسدها بلاغة ولا فصاحة، لحياة عامة الناس في ذلك العهد البعيد، قلما يعثرون عليها في كتب رجال السياسة والاقتصاد، أو في قصص الأدباء، أو حتى في مذكراتهم. ولا ريب أن تلهف هؤلاء القراء دليل على ما في قلوب عامة الناس في كل زمان ومكان من تعجب لفعل الزمان، ومن تحنان خفي للأيام الخوالي. وقد أصبت منذ أول غرامي بالقراءة بهوس البحث في مكتبتنا العربية عن شيء يشبه هذه المذكرات في دكاكين باعة الكتب القديمة على سور الأزبكية، على عربات اليد فوق الأرصفة. وأعترف أنني رغم بحثي الدائب المتصل لم أعثر إلا على شيء قليل جدا، ولذلك كانت فرحتي به لا تقل عن فرحة الصياد يرمي إلى الماء بدودة، فيطلع له حوت ضخم، نتف مما أشتاق إليه موجودة في مذكرات الجبرتي، من أجل هذا أحبها من صميم القلب حبا مضاعفا. تتبعت مذكرات شفيق باشا وطه حسين وهيكل وأحمد أمين وسلامة موسى وبقية الطاقم، فوجدتهم جميعا منشغلين بالأدب والفلسفة أو السياسة، لم يتنازل واحد منهم ليحدثنا عن تفاصيل حياته اليومية. كنت أحب مثلا أن أعرف من الأيام ماذا كان يأكل طه حسين وهو صبي، وكم كان يبلغ مصروف البيت... إلخ. هذه التفاصيل قد يراها بعض الناس هينة لا نفع لها، ولكنها عندي تملأ بالدفء جوانب السيرة التي أحب أن أقرأها، لعلي وجدت بعض بغيتي في مذكرات أناس لم تفسد البلاغة أو الفلسفة أسلوبهم، كالمذكرات التي كتبها إسماعيل يس، ونفر آخر من نجوم المسرح والسينما وهز البطن، بعضها بادي الصدق، وبعضها محشو بالأكاذيب، ولكنها جميعا لم تطبع مع الأسف في كتاب، وأنا أكره جمع قصاصات الصحف، وضاعت أيضا سيرة محمد عبدالوهاب في الهواء. ثم إن هؤلاء جميعا هم من المعاصرين، وإنما بحثي هو عن مذكرات من عهود سابقة، كتبها أناس بسطاء، لا نجوم المسرح والسينما وهز البطن. من القليل الذي عثرت عليه كتاب في حجم الكف، ألفه بقال رومي، وصف فيه نشأته في بلاده، وذكر الأسباب التي دعته إلى الهجرة لمصر، وكيف وصلها لا يملك درهما، وكيف اشتغل صبيا لدى بعض مواطنيه، ذكر لكلٍّ اسمه وعنوانه، ثم انتهى به المطاف إلى «بقال باشا»، مورد الحضرة الفخيمة الخديوية، أيام توفيق باشا، ثم كيف استقل بدكان ذكر محتوياته، ومن أين كان يشتريها. كما حدثنا عن أسلوبه في معاملة «الزباين» من الرجال والنساء من أهل البلد والأجانب. إنني أشم من هذا الكتيب رائحة القاهرة سنة 1900 أكثر مما أشمها في أي كتاب آخر من كتب الخطط أو التاريخ السياسي أو الاقتصادي، وأحب أن أقدم لك اليوم مقتطفات من كتاب نادر عثرت عليه صدفة واعتززت باقتنائه، لأنه من قبيل هذه المذكرات التي تفتقر إليها المكتبة العربية عنوانه «حياتي» -هذا هو أيضا عنوان سيرة أحمد أمين ومحمد عبدالوهاب- ألفه رجل عصامي كان مولده في سنة 1871 ثم شق طريقه في الحياة بجده وذكائه وكفايته وأمانته واستقامته، حتى وصل إلى منصب مدير إدارة في وزارة الأوقاف. لن تجد في هذا الكتاب القيم شيئا من التاريخ السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي للفترة التي عاشها. إن غرضه الأوحد أن يسجل تدرجه في المناصب والعلاوات مع ذكر الهموم التي يعانيها الموظف: حسد ودسائس ومؤامرات من زملائه، جحود و«عنطزة» من رؤسائه، ويصف أصدق وصف، حال الأداة الحكومية، فيخيل إليك أن هذه الأداة مصنوعة من الصلب أو الصوان، ولكن من خلال هذه النظرة الضيقة ينكشف لنا كان المجتمع، وكيف كان يعيش الناس، فهي لا تتبدل ولا تتغير. *1970 * كاتب وروائي مصري «1905 - 1992» كنت أحب أن أعرف من الأيام ماذا كان يأكل طه حسين وهو صبي، هذه التفاصيل قد يراها بعض الناس هينة، لكنها تملأ بالدفء جوانب السيرة