«الجنوب هو المكان الذي أعرفه جيداً، لذلك أكتب عنه». هكذا يبرر الروائي طاهر الزهراني عودته مرة جديدة لكتابة رواية حملت عنوان «آخر حقول التبغ» وصدرت قبل أيام فقط، يشكل الجنوب بجغرافيته وناسه وحقوله ومحاصيله بيئتها، وذلك بعد أن كتب رواية «الفيومي» الصادرة عام 2017، وتناولت ذات المحيط والبيئة. وحضور الجنوب في أعمال الزهراني لا يُعنى فقط بالمكان، بل وكذلك بالذات، معتمدا على الذاكرة، متكئاً على الجانب الإنساني، جامعاً بين أزمنة مختلفة فيما يبدو أنه شغف بالمقارنة بين ما كانت عليه الحال، وما آلت إليه. آخر حقول التبغ رواية المؤلف طاهر الزهراني الناشر دار التنوير للطباعة والنشر لبنان الطبعة الأولى 2020 الصفحات 160 القياس قطع متوسط التوازي كُتبت «آخر حقول التبغ» بأسلوب التوازي بين زمنين، زمن الجد خضران، والزمن الحالي لبطل الرواية الذي يحمل كذلك اسم «خضران» في تأكيد على امتداد الجد بالحفيد الذي حمل اسمه، وجدد قلعته التي أُحرقت وتداعت، وتشديد على أن الجد الذي اتصف بالحكمة والشجاعة والكرم، ترك إرثه لحفيده الذي توسم أنه سيحتفي بهذا الإرث ويعيد بناء القلعة. توازت الفصول وتنقل الزهراني فيها بين الزمنين مثل لاعب سيرك يرمي كراته ويتلقفها، معيدا ترميم علاقة الحفيد بجده، مع كل ما تمثله هذه العلاقة من عودة إلى الجذور، ولعله من خلال حرصه على قيادة الحفيد إلى ترميم القلعة والإبقاء عليها كما كانت دوما على الأقل من الخارج، مع الأخذ في داخلها بالوسائل العصرية، أراد أن يقول «لن تنتهي متاهتنا إلا إن تمسكنا بالجذور، حيث ننتمي». علاقة متشابكة يجعل الزهراني علاقة خضران الحفيد بخضران الجد شديدة التعقيد، كعلاقة الحاضر بالماضي، مراوحة بين الاحتفاء والبغض، وبين الاعتزاز والنفور، وبين اللقاء والصدام، فيقول على لسان الحفيد «نحن نتبادل الأدوار يا جدي العزيز، نحن ضحايا الظروف أيها العجوز الذي أمقته وأحبه». ويعود بعد أربع صحفات فقط، ليؤكد على هذه العلاقة الشائكة، فيقول الحفيد من جديد «أنا أعرف جدي جيدا، رجل عظيم، شجاع وكريم، لكنه صعب المراس. أمقته وأحبه، أشفق عليه وأخافه، لكل منا خيباته، تدمع عيناي من انكساره، أنا وهو كغيمتين تصطدمان فتسببان برقا ورعدا». أسئلة الانتماء تطرح الرواية كثيراً من الأسئلة حول الانتماء، فتقول «أفكر في الأشياء من حولي، في ارتباطي بها، في نوع الانتماء بيني وبينها، كل ما يربطني بالأشياء هو مجرد خيط رفيع، كخيط العنكبوت..». ويكمل «هذا الخيط الرفيع لازمني طوال حياتي، الآن لا يربطني بالأشياء سوى ذلك الخيط الرفيع، المكان، الديرة، الوطن، العائلة، الجد، الزوجة، الماضي، المستقبل، الموت». لكن هذا الخيط الرفيع يتحول في النهاية إلى ارتباط وثيق بالمكان والماضي، ولعل قفلة الرواية حيث يجلس الجد والحفيد على سطح القلعة يشرفان على الوادي، تؤكد في النهاية أن التصالح مع الماضي، هو ما سيجعلنا نرى الأمور بوضوح وجلاء، رؤية العارف الكاشف المطمئن. الهشاشة أمام التيه الذي يعيشه إنسان الحاضر المشتت بين الرغبات والعجز، الحائر بين التنمر والوشيات، والمنصرف إلا قلة قليلة عن التأمل، يكرس الزهراني الهشاشة التي يعانيها الإنسان الحديث، ويعود مرة جديدة للتأكيد على افتقاده الانتماء، فيقول «أعود إلى صفحات بعض الأصدقاء القدامى، أنظر في صفحاتهم، أتامل في منشوارتهم التي تتحدث عن الغربة والوحشة، ليتكرس أمر واحد فقط، هو هشاشة الإنسان الحديث، وغربته، وحزنه الذي يقتات على كبده». ويعود ليقرر «الإنسان العربي مهزوم على الدوام، وأفراحه لا تعدو كونها طعما في فك الخيبة والإحباط، نحن كائنات محبطة». التبغ لا يبدو موضوع حقول التبغ مطروقاً في الأدب السعودي، لمحدودية انتشاره، لكن الزهراني يقول ل»الوطن» «نشأت في عائلة يربطها بالتبغ علاقة متينة وحميمة فقد كان أجدادي يزرعونه قبل سبعة عقود، وقد كان هو مصدر قوتهم الأفضل بعد زراعة الحبوب، لذا عندما تأتي سيرة التنباك الأخضر فإن ذكريات وحياة ماضية بكل تفاصيلها تنبعث فلا تكاد تنتهي الحكايات. اشترى أجدادي بلادهم، وبنادقهم، وحتى قلائد نسائهم من عائدات التبغ، لهذا هم يشعرون بامتنان ما لهذه الشجرة. وقد كانت جدتي لأمي تحكي لي عن تفاصيل الزرع، وكيف يغرس، ويسقى، ويقطف، وتجفف أوراقه، وتحدثني عن أثر التبغ على يديها حال القطف، وعن المعاناة لجعل الأمر في الخفاء دون أن يعلم به أحد، حتى لا يبلغ الخبر الطوارف الذين كانت مهمتهم تلك الفترة محاربة زرعه». المطر يركز الزهراني على علاقة إنسان الجنوب بالمطر، فمزارعه وجهده وحصاده وأشجاره وحيواناته تبقى رهينة هطول المطر ليسقي المزارع، أو «البلاد» كما يسميها أهل الجنوب، ولا يكتفي فقط برسم لوحة تصور حبور البشر عند المطر، بل يشرك فيها الشجر والحيوانات ويقول «يهدر الرعد فيهلل الناس في الوادي، ويسألون الله القطر، يهدر الرعد فتنظر البهائم نحو السماء.. حتى أشجار السدر تعتريها حركة، ويصدر منها حفيف اشتياق نحو السماء». ويكمل «يذهب خضران إلى الغنم يختار أفضلها قرباناً، يجر أفضل التيوس، يخرجه من باب الزريبة، يذهب به إلى أرضهم الكبيرة، يلقي بالتيس على جنبه نحو القبلة، ويذبحه، فيشخب الدم الحار نحو التراب، فتتصاعد بعض ذراته نحو وجهه الخاشع... يخرج أحد رجال القبيلة زيرا من بيته، يتعاون معه أحدهم، يحملون الزير نحو مكان القربان... شباب الوادي، وبعض الكبار تمنطقوا الجنابي، وخرجوا من بيوتهم يرقصون العرضة، أمام الزير والقربان، وآخرون يعمرون بنادقهم ويصوبونها نحو الغيم.النساء يرمين مناديلهن الحمراء تجاه السماء داخلات على الله ينشدن الرحمة ويطلقن الغطاريف بانكسار». ويتابع «قطرات ماء كبيرة تباشر جباه القوم ولحاهم المغبرة، البرق يلامس قمم الجبال، الجنابي تلمع مرحبة بالرحمة، امتزج المطر بدموع الفرح، وتتابع هدير البنادق المرحبة بالغيث، وانطلق ثغاء الماشية وخوار الأبقار وزغردة العجائز في زوايا بيوت الحجر».