بدخول العشر الأواخر من رمضان، عام واحد وأربعين وأربعمئة وألف للهجرة، الموافق عام عشرين عشرين ميلادي، كان لنا موعد حبّ مُتيّم مع تراب هذه البلدة المباركة، وليلة العيد كانت ليلة من أغلى الليالي، تضاعفت فيها أفراحنا باستكمال صومنا وبعيدنا، ثم بخروجنا من الحجر الصحي الخاص بالقادمين من الخارج. كان مطار الموحد بجدة هو أول محطات وصولنا إلى هذا البلد المعطاء، فلا تسأل حينها عن حجم الاستعدادات وجمال الترتيبات ذات العلاقة بجائحة كورونا. وأينما جُلت ببصرك وقلبت طرفك في باحات المطار ترى عجبا، فكل جهة تعمل بدقة متناهية، وتقوم بواجبها على أكمل وجه، وذهلنا من جمال التنظيم وانسيابية الإجراءات، ثم ظننا أن الأمور قد انتهت إلى هذا الإبداع فقط، فما إن هممنا بالخروج، حتى طل علينا منسوبو السياحة إطلالة كرم، إذ أنزلونا في فنادق فاخرة مكتملة بكل ما يتمناه كل ساكن، كل ذلك لتكمل الدولة دورها الفاعل والمؤثر في خدمة مواطنيها، والحفاظ على صحتهم وسلامتهم، ممثلةً في وزارة الصحة والقطاعات المساندة، والتي تعمل في الصفوف الأمامية، إذ قامت وتقوم وستقوم -إن شاء الله- بكامل واجبها. ثم جاء يوم التوديع، إذ امتزجت فرحتي بعبرتي خلال نزولنا وحدنا لحظة الوداع، وأنا أرى موظفي الصحة والقطاعات المساندة يهتفون فرحين تصفيقا وترحيبا بنا، ترحيب الأهل بذويهم وأحبابهم، بل غمروا أطفالي بالهدايا، في توديع حافل اتسم بمعاني الصدق كلها، إذ غابت عدسات الكاميرات وحضر الوفاءُ. وكل من جاء من أبناء الوطن يظن أنه خُص بهذا، لما يرى من كبير الحفاوة وعظيم الاستقبال وحسن التوديع، مما يدل على أن هذا هو ديدنهم لكل مواطن، بعيدا عن ضجيج الإعلام. فالشكر أولا وآخر، وظاهرا وباطنا، لله وحده، الذي أسبغ علينا نعمه التي لا تعد ولا تحصى، والشكر ثانيا لهذا البلد المعطاء الذي لم يتوان بكل ما يملك، في تقديم الرعاية والاهتمام لأبناء شعبه، صحيّاً وأمنيّاً وتوعويًا، فشهادتنا فيه مجروحة كيف وهو وطننا الذي نبتنا فوق أرضه، وترعرعنا بين أكنافه، واستنشقنا هواءه، واستظللنا بسمائه، فلا عجب أن ألفناه، ولا بدع أن عشقناه، ويكفينا فخرا الانتساب إليه، وقد يغيب عنا أحيانا الشعور بفضل هذا البلد المعطاء، ولا ندرك قيمته حق الإدراك ما دمنا بين أحضانه ونجول بين أكنافه، ولكن حينما نغترب وننأى عنه قليلا، لظروف عمل أو دراسة أو علاج أو سياحة، نعرف فضله وقدره، لأننا نكون -وبكل وضوح- قد نظرنا بمنظارين، ولاحظنا الفرق الشاسع والبون الواضح، بين ما تقوم به هذه الدولة المباركة، وبين من يسمون أنفسهم «البلدان المتقدمة والمتحضرة»، فالتقدم والتحضر ليسا كلاما مجردا أو مؤتمرات تعقد أو تصريحات وبيانات، بل علَّمنا بلدنا أن التقدم والرقي أقوال تترجم إلى أفعال. ومن لمس في قولي مبالغة فليجرّب كتجربتي. إنها الحقيقة كل الحقيقة، لمستها واقعا عمليا، بل إن مما زادني إعجابا بهذه المنجزات، هو العمل الدؤوب بصمت دون ضجيج، لأن الهدف هو الوطن والمواطن فحسب. فها هي أكفنا مرفوعة وألسنتا لاهجة لها بالدعاء، بأن يحفظ عليها أمنها وإيمانها، وأن يحفظ ولاة أمرها، وأن يرزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم دائما على كل خير، وأن يرفع عن المسلمين الغمة، ويكشف الكربة، وأن يديم علينا الأمن والأمان. * الأستاذ المشارك بجامعة القصيم وعميد الخدمات التعليمية سابقا