قيل لي إن الأمير تركي بن ماضي (أمير أبها) يدعوك إلى نزهة في قرية السودة في جبل (تهلل). وعلمتُ أن السيارة تستطيع أن تشق طريقها في الجبل إلى (السودة) فلذ لي أن أستمتع بيوم جميل على أكتاف الجبل، وما علمت أنه جبل يسلمك إلى سلسلة تتصاعد قممها من عالٍ إلى شاهق حتى تكاد تنسى سببك بالأرض وصلتك بها. مضت بنا السيارة تزحف بين الصخور في أنين المرهق، فكانت لا تستوي إلا لتهبط في منحدر شاق ولا تنحدر إلا ليجمع (فتيسها) كل ما يملك من طاقة نحو مرقى جديد عالي الصدر مرفوع الهامة. وبدأت تطالعنا قرى الجبل في بيوت تجتمع مرة وتتفرق أخرى. وكنا لا نصافح قرية حتى تلمع مزارعها على مد بصرنا في مدرجات تنحدر تحت أقدامنا من مدرج إلى آخر في أشكال مثلثة أو مربعة يموج فيها نبات الحنطة في صفرة يانعة أخاذة. وأخذت عيني حمالة حطب سبقتها السيارة على منحدر يلتوي بنحو قريتها فوقفت تصك نصف وجهها في خفر وتصافحنا بعيون ما شهدت في حياتي أدق تعبيراً منها، فأهبت بالسائق أن يقف لنتعرف ببيتها من القبيلة، فصاح بي شيخنا العلامة عبدالرحمن الحاقان: أقصر أيها العجوز وإلا طيرت أمرك إلى أسامة وزهير. لحا الله أسامة وأخاه زهيرا وأمهما وكل من لف لفهم من أقارب وأصهار أن منعوني أتتبعهما إلى نتائج يقرها الدين ويبيحها. ولكن شيخنا العلامة كان فيلسوفا أكثر منه فقيها عندما توسع لي في بحث العواقب التي يخشاها على عجوز مثلي من سطوة العيون واستطاع أن يقنعني لألزم حدودي من أسامة وزهير. ليت شبابنا وهو يستقصي لزواجه الجمال يعلم أن (أبها) مرتع مخصب للجمال الفاتن. لا أقصد (أبها) المدينة.. ولكن هناك أبها: الجبل والقرية والمزرعة ومورد الماء، حيث تنطلق الفتيات في سذاجة وعفة طاهرة ينقلن الماء أو يحملن الحطب أو يسرحن في خدمة المزارع لا تخجل عيونهن النجل أن تصافحك في جمال بريء وتتحداك إن زغت في صرامة جادة. في ظل الأشجار الباسقة صعد الطريق بنا إلى قمة جديدة ما انتهينا إليها حتى أشرفنا على وهدة عميقة الغور ترقد في قاعها البعيد «تهامة» تتراءى مسالكها وقراها على حفافي الوديان خلف الضباب الكثيف، ولا تكاد تبين لفرط البعد الهائل الذي يفصلنا، وقد قيل لي إنها منازل رجال ألمع وهم فخوذ متفرقة يزيد تعدادهم عن 100 ألف، وقد هاجر كثير من فتيانهم إلى المدن القريبة ينشدون العمل ويطلبون المعرفة، ورأيت من شبابهم في أبها موظفين يحتلون مراكز محترمة منهم سليمان حفظي الألمعي مراسل مجلة قريش ويحيى الألمعي مراسل جريدة الندوة، وقد كانا مدة إقامتي في أبها خير معوان لي فيها. وانحدر الشباب يلتمسون طريقهم خلال الصخور الهابطة بين مخاوف الوهدة فانحدرت بانحدارهم إلى ينبوع يترقرق فيه ماء عذب، وراقهم أن يوغلوا في الانحدار ويغروني به فانسقت لإغرائهم مشوقا إلى الينابيع التي كانت تتجدد كلما التوى بنا الطريق أو هبطت أمامهم الصخور. وطال بنا المدى فاتسعت المسافة بيننا وبين من تركنا من إخوتنا على حافة الوهدة العليا فاستعصيت على الإغراء وصحت بهم فعادوا. كانت الغابات أوسع من أن يحدها نظري، وقد قيل لي إن مساحتها توازي أكثر من ثلاثين كيلو مترا مربعا، وأن بعض المناطق فيها لو سلكها الرجل عاريا لما تكشف في جسده موضع نظر. وكان الجبل على سعته وبعد مساحاته تتخلله ينابيع كثيرة متفرقة في جهات عدة من أنحائه، وكنت ترى بعض الجداول تنساب هنا أو هناك لتروي الأعشاب والشجيرات الطفيلية التي تتخلل الصخور والأشجار. وتنتشر القرى من قبيلة علكم وبني مغيد وغيرهما بين مصاعد الجبال حول آبار غزيرة المياه وقد مررنا في طريقنا بصفا وبشار والصعيد وباحة ربيعة وهي غير القرى العديدة التي لم نستطع إحصاءها. ويمتاز رجال القبائل في جبل تهلل بنشاط وافر فهم يمتهنون الزراعة في دأب متواصل يشتركون في هذا رجالا ونساء وأطفالا وقد مررت بألوف الحقول في ثنايا الجبل، وكانت معدة لاستقبال المطر ولكنه تباطأ عليهم فباتوا ينتظرون الفرج لأن الينابيع البعيدة والجداول المتفرقة لا تكفي لري أراضيهم. فلو عنينا بحفر الآبار ومظان الينابيع وبنينا سدودا للسيول والأمطار لكان لجبل تهلل شأن غير هذا الشأن. وما جبل تهلل إلا جزء من جبال الحجاز (السراة) وهي في مجموعها جبال خصبة تربتها صالحة للزراعة في أكثر مناطقها إذا وجدت العناية الكافية. إن الغابات التي شهدتها في جبل تهلل والتي تغطي مساحات واسعة من مناطقه غنية بأشجار الزيتون البري ودوح العرعر، فلو وجد الزيتون تلقيحا فنيا لأغنينا به البلاد عن استيراد الزيتون واستطعنا بعد ذلك تصديره ولو وجد دوح العرعر العناية التي تجدها الغابات في البلاد التي تصدر الأخشاب لكان لنا منه ثروة لا تقدر بثمن. إن وزارة الزراعة تبذل اليوم بعض الجهد فقد أنشأت مشتلين في أبها لتنمية الورود والأشجار، وزودت فرعها هناك ببعض الفنيين، ولكن الأمر أوسع من أن يكتفي بما فعلت، فالمزارعون في الجبل وفي جميع الوديان حول أبها يحتاجون إلى جهود واسعة لاستنباط المياه وجهود أكثر للتوجيه الفني. *1953 * أديب وصحافي سعودي (1905-1984)