ينحاز الشاعر الصديق (عبدالله بيلا) إلى الإنسان في كل ما يكتبه من شعر ونثر، وينحاز تحديدا إلى عذابات الإنسان وآلامه ومكابداته في الحياة، ويجول ببصره في المصائر والمآلات البشرية المتنوعة، وينقب في تاريخ الإنسان باحثا عن المعنى والقيمة والهدف، دارسا وفاحصا ومتأملا، ومحاولا أن يفهم ويعي ويستوعب الأبعاد والمرامي والغايات.. يتبدى ذلك كله جليا وواضحا في مجموعته الشعرية الأولى (تآويل ترابية) الصادرة حديثا عن (دار التنوخي للنشر المغرب) في (80) صفحة من القطع المتوسط ، إذ تتمحور أغلب نصوص المجموعة حول الإنسان (ماضيا وحاضرا ومستقبلا) و(ظاهرا وباطنا)، منشغلة بهمومه وهواجسه وتساؤلاته ، في دأب دائم ومستمر ، وفي حرص لا يعرف الكلل أو الملل .. ويمتاز نص بيلا بعمقه وتعدد طبقاته، كما يتوشح دائما بإيقاعه وموسيقاه الأخاذة، ويتلون بشبكة معقدة بعض الشيء من الرموز والإشارات والإيحاءات المترعة بالمعاني والدلالات، والقابلة للقراءة والتأويل بأكثر من أسلوب وطريقة. وفي حين تتنوع تجربة الشاعر ما بين النمطين العمودي والتفعيلي، إلا أنها تنحاز إلى النمط الأخير بشكل أكبر، ويتبدى الشاعر في نصه التفعيلي تحديدا أكثر إمساكا بناصية قصيدته، وأكثر إيغالا في معانقة الفضاءات الحقيقية لإبداع النص الشعري الحديث، الذي يتسم فيما يتسم به بالتركيبية والتعدد وتنوع المعاني، ويحتفل بالرؤى والتنبؤات والحدوس، ويكتنز بالالتباسات والمراوغات الفنية على صعيد اللغة والمعنى في ذات الوقت.. ( محاولة للخروج إلى تراتيل جسد تساقط زمن أعمى ينتهك النور تآويل ترابية ) تمثيلا لا حصرا.. في حين تبقى النصوص العمودية في المجموعة وهي قليلة على أية حال أسيرة الفضاء المعتاد ولا تتبدى حريصة على مغادرته نحو آفاق المغامرة أو الكشف والابتكار. وبالعودة إلى البعد (الرئيوي) في نصوص المجموعة يحضر مباشرة النص المعنون ب(بعث المنائر) والمهدى إلى الناقد والشاعر الدكتور سعيد السريحي، والذي أي النص يحتفي بالقدرة على الحدس والتنبؤ واستشراف المستقبل، بناء على قراءة وتأمل معطيات الواقع ومفرداته وإرهاصات الآتي والمقبل، مستحضرا بعض الأسماء والرموز التراثية المعضدة للمعنى المقصود ( كنت تبصرُ ما لا يرى الآخرون / كنت زرقاء أهل اليمامة / ليتهم لم يشيحوا وجوههم عن سناك ... قل لنا: فقد كنت عرافَ هذا الزمن / وكنت الكتاب الذي ليس يحصر في الدفتين) .. ولئن تبدى الشاعر كما ألمعنا في مستهل هذه القراءة منحازا إلى الإنسان ومعبرا عن عذاباته وآلامه وانكساراته إلا أنه لم يتوقف عند ذلك الحد، بل اتسعت آفاق تجربته وفضاءاتها للانحياز إلى آلام وعذابات الكائنات الأخرى، التي لا يحفل بعذاباتها عادة إلا ذوو الحس المرهف والطبع الرقيق من بني البشر.. فهاهو يكتب (مواساة لعصفورة حزينة: ص 159) مصورا آلام تلك العصفورة وعذابها ووحدتها بعد أن فقدت شريكها في القفص (لا حزن أعظمَ من حزنِ عصفورة القفص المنزلي)، ويكتب أيضا عن هرة تنجح في عبور الطريق ناجية من عجلات السيارات العابرة، واصلا بحفاوته بذاك الكائن البائس والضعيف إلى حدود الأنسنة الكاملة (طفلة أنتِ / عيناكِ أرجوحتان بدائيتان). وهكذا تنداح التجربة وتتضافر خيوطها لترسم لوحة حافلة بعذابات الكائنات وآلام وجودها ومكابداتها الدائمة. وأشير هاهنا إلى ملمح آخر من ملامح تجربة الشاعر في هذه المجموعة، ألا وهو (الغربة).. بكل ما تحمله مفردة الغربة من معانٍ أو تكتنز به من دلالات وإيحاءات، فغربة الشاعر هاهنا غربة عميقة وبعيدة الغور، غربة في المكان والزمان، وغربة عن المكان والزمان في ذات الآن.. أي أنها غربة مركبة ومضاعفة حاولت الذات الشاعرة قراءتها ومقاربتها واستكناه ملامحها من خلال نص بعنوان ( تآويل ترابية) وهو العنوان الذي تحمله المجموعة حيث جاء في مفتتح النص ( قال لي: لا تجرب قراءة هذا التراب / كثيرون قبلك / تاهوا على تمتمات الرمال ... ولي أن أسائل هذا التراب / أناقشه عن خطاي / ولكنه أخرس كالحقيقة / أعمى كقاطرة الموت) ، وهو التراب الذي يتبدى أخيرا وبعد الإيغال في قراءة النص، معادلا للعذاب وللوطن المفقود الذي يكابد فيه الشاعر غربته ويواجه حيرته وألمه، ويعاني من تمزق ذاته وتشظيها في بحثها الدائب والمرهق عن المأوى والموئل والمعنى والتحقق والأمان ( ولا وقت لي / لقراءة هذا التراب / العذاب / الوطن ) ... يتبدى عبدالله بيلا أخيرا في تآويله الترابية كما عبر عن ذاته تماما حين كتب ( أنا وجع الماء / نقطة ضعف الحياة الوحيدة / سادن حزن الجراذين / بوابة سوف تفضي إلى نفسها ) محاولة للخروج إلى ص 9 منغمسا في حزنه ووجعه الإنساني الذي يؤرقه ويزرعه بالألم، وينداح ما بين كلماته وحروفه ساخنا وطازجا، ومغسولا بمائه الشعري الرائق والنقي ....