«الخبر الجميل هو أن فن المزمار أو لعبة المزمار صارت ضمن التراث العالمي في اليونيسكو، والخبر غير الجميل هو بعض ردة الفعل العجيبة والغريبة من البعض، على اعتبار أن هذا الفن وهذه الرقصة وهذا اللعب المعروف بالمزمار، هو فن ذو أصول إفريقية، ولكن ماذا في ذلك؟ أليست كل الفنون في العالم هي فنون إنسانية في مقامها الأول، تنتقل وتؤثر وتتأثر؟ وما ينطبق على المزمار ينطبق على غيره». بهذا المستوى من العمق المعرفي والوعي الحضاري، كتب القاص والروائي السعودي صلاح القرشي غداة ذيوع خبر أن «اليونيسكو تدرج رقصة المزمار السعودية في قائمة التراث العالمي» في الحادي عشر من ديسمبر 2016. مؤثرات القرشي لم يكن وحده المتحدث بمعرفة ووعي، فالدكتور سعد البازعي غرّد حينها قائلا: «لو عزلنا ما هو دخيل مما هو غير دخيل على أي ثقافة، لما بقي فيها شيء يذكر، معظم الثقافات تحمل مكونات قادمة من غيرها باستثناء الثقافات البدائية، الثقافات بطبعها متنقلة عبر التاريخ ولا داع للتعصب والمحلية الضيقة». بحسب دارسين ومتخصصين وخبراء في الدراسات الاجتماعية والثقافية، اللغط الذي تتبناه بعض الأصوات، مؤكد أنه لن يصادر أي فن هو ركن عتيد من منظومة الفولكلور في السعودية،. غير أنه يفتح الباب واسعا على مفاهيم «تداخل الثقافات والفنون بين الشعوب والمجتمعات، بتأثيرات مختلفة، منها ما هو جغرافي، وما هو اجتماعي/ اقتصادي، حيث الارتحالات والهجرات، والتنقلات، لتبقى الفنون من أقوى وأهم المؤثرات في مسيرة الرحلة البشرية عبر الزمن». في الحديث عن واقع الفولكلور والموروث الشعبي الفني بالسعودية «غناء ورقصات وموسيقى»، يبرز جانب سلبي، يتمثل في غياب -حد الندرة- مصادر علمية ومنهجية حقيقية يعول عليها، توثق هذه الجوانب المتعددة لهذا الموروث الضخم، الشديد التنوع والثراء، فجل المؤلفات التي اجتهدت في هذا السياق، اعتمدت الوصف الإنشائي، ومناقبية التدوين، دون أي محاولة لتأصيل علمي/منهجي، ومؤكد أن لهذا أسبابه، ولعل أوضح الأسباب، هو افتقار الساحة إلى باحثين مؤهلين علميا، متخصصين في «موسيقات الشعوب»، أو ما يعرف اصطلاحا ب«الإثنوموزيكولوجيا». وهنا يسترجع مراقبون كيف قفزت المجر في القرن العشرين للصدارة، وبلغ تقدمها الموسيقي مستوى جعل منها كعبة لمعلمي التربية الموسيقية، وللباحثين في موسيقات الشعوب، واحتلت مكانا مرموقا في الإبداع الموسيقي المعاصر بفضل اثنين من أبنائها، هما: «بيلا بارتوك، وسلطان كوداي»، اللذان أسمعا العالم صوت المجر بمؤلفاتهما المستلهمة من الموسيقى الشعبية، والتي نقبا عنها وجمعاها من أعماق الريف. ندرة على المستوى المحلي سعوديا، يتحسر عدد من الفنانين والمثقفين على اندثار عدة فنون، سواء كانت مدنية أو من الريف، نتيجة تغير أنماط الحياة التي أفضت إلى اختفاء ما كان يعرف بغناء وأهازيج الفلاحين، أوالبحارة، أو الرعاة في الصحارى، وهنا يشير الفنان أحمد وردة إلى فن «الحدري» الذي كان شائعا في المنطقة الغربية، بدءا من موطنه الأصلي بوادي فاطمة، فيما يتذكر آخرون غناء البنائين المحليين الذين كان يميزهم في مدن الحجاز، والأحساء، والمنطقة الجنوبية. ونتيجة عدم وجود اهتمام بالتوثيق والتدوين العلمي الحقيقي، اندثرت عشرات الأغاني التي كانت تنطلق من أفواه الفلاحين والبنائين والبائعين، وهنا يستشهد الفنان والملحن جميل محمود بأغنية محمد عبده الشهيرة «ومن العايدين» التي تتردد كل عيد فطر في الفضاء السعودي، ذاكرا أنها في الأصل أهازيج كان يرددها الباعة في أسواق مكةالمكرمة ليلة إعلان دخول العيد، وبحسه الشعري التقط الشاعر الغنائي الراحل إبراهيم خفاجي المطلع، وكتب الأغنية الشهيرة. فيما يشير فنانون إلى عدد كبير من أشهر الأغنيات السعودية التي استلهمت ألحانها من الفولكلور والتراث الشعبي. اندثار أحد أهم علماء الفولكلور بالقرن العشرين، كان عام 1904 تاريخيا في حياته، إذ بدأ فيه أولى رحلات الجمع الميداني لأغاني الفلاحين المجريين، ولكنه لم يقتصر عليها وحدها، لإيمانه بتعسف الحدود الفاصلة بن المجر وجاراتها، فامتدت رحلاته إلى رومانيا وسلوفاكيا وأوكرانيا ويوغوسلافيا وبلغاريا بل وتركيا والجزائر، واستغرقت عدة سنوات كانت سنوات اختمار وتشرب للعناصر الشعبية التي شكلت أسلوبه الخاص فيما بعد، وقد عاونته منحة حكومية من المجر على بحوثه الفولكلورية، ورحلات الجمع والتسجيل لموسيقات المجر والبلدان المشار اليها. ورغم الاعتراف بقيمة عمله في جمع الفلكلور، إلا أن حماسه البالغ للإيقاعات المركبة للموسيقى البلغارية، واعتبارها سمة مميزة، جعل دراسات أحدث -حسب الدكتورة سميحة الخولي- تتوصل إلى أن هذا النوع من الإيقاعات ليس وقفا على بلغاريا، فهو واسع الانتشار في البلقان، إذ يميز الموسيقى اليونانية والألبانية، كما أنه معروف في الموسيقى الشعبية التركية والأرمنية والهندية، كذلك هو من السمات المميزة لأغاني الغوص والصيد في منطقة الخليج «الكويت والبحرين»، وينتشر أيضا في بلاد النوبة بمصر. أنموذج بيلا بارتوك «1881 – 1945» هذا يقودنا إلى انغلاق البعض من المتابعين في الأفق المحلي، في غفلة عن المشترك الإنساني لعدد من الفنون. فعلى سبيل المثال، يردد البعض أن فن «الخبيتي» حجازي خالص، بل يحصرونه في قبيلة محددة، فيما هو فن شائع جغرافيا على امتداد حوض البحر الأحمر، وموجود في معظم دول هذا الحوض. مثله مثل الغناء البحري بالسمسمية المنتشر على طول ساحل البحر الأحمر، وهنا يستعيد التاريخ الفني لمدينة ينبع، الزيارة التاريخية للملحن المصري الراحل بليغ حمدي لمدينة ينبع في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، ولقائه عمالقة الطرب البحري حينها، في مقدمتهم علي الرويسي -رحمه الله- ثم استلهامه فيما بعد لحن أغنية «يا ليلة الأنس» للفنانة سميرة سعيد، من أحد الأدوار الينبعاوية. مما يشير إلى أن الفولكلور والفنون دائما تمثل إثراء للثقافة، وجسرا للتواصل بين الشعوب رغم المسافات، وأحيانا اختلاف الثقافات واللغات. تجسيير المسافات في أوضح مثال على دور الفولكلور في التقاء الثقافات، يأتي فنّا التبوريدة والتعشير. فالتبوريدة، اسم يطلق على عروض فروسية، تحاكي هجمات عسكرية، تمارس في بلدان المغرب العربي، في مختلف مناطقها، العربية والأمازيغية والصحراوية، إضافة إلى بلدان أوروبية كفرنسا وبلجيكا، بين جالياتها المغاربية. تكمن رمزيتها في تجسيدها لتعلق شعوب المغرب العربي بالفروسية، التي تمثل رمزاً تاريخياً وتراثياً، تتوارثه الأجيال وتعتني به، وتؤدى في الاحتفالات والأعياد الكبرى، مثل حفلات الزفاف والولادات والأعياد الدينية، والمواسم الثقافية الفنية. أما التعشير: فهو فن وفولكلور يؤديه بعض قبائل الحجاز في المناسبات، وفي كلا الفولكلورين تستخدم البنادق التي تطلق البارود، من أشخاص يمتطون الخيول. هذان الفولكلوران المتطابقان -إلى حد بعيد- هما بمثابة تأكيد ل«دور الفنون في تعميق المشترك الإنساني، وما تحققه من سمو روحي يعلو فوق شبهات الماديات، وشبهات التمييز العنصري أو الثقافي، تطابقا مع مصطلح «التراث الثقافي» الذي وضعته وأقرته اليونيسكو». التعشير والتبوريدة لا يقتصر التراث الثقافي على المعالم التاريخية ومجموعات القطع الفنية والأثرية، وإنما يشمل أيضا التقاليد أو أشكال التعبير الحية الموروثة من أسلافنا، والتي ستنقل إلى أحفادنا، مثل التقاليد الشفهية، وفنون الأداء، والممارسات الاجتماعية، والطقوس، والمناسبات الاحتفالية، والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، أو المعارف والمهارات المرتبطة بإنتاج الصناعات الحرفية التقليدية. ويشكل التراث الثقافي غير المادي، على الرغم من طابعه الهش، عاملا مهما في الحفاظ على التنوع الثقافي في مواجهة العولمة المتزايدة. ففهم التراث الثقافي غير المادي للجماعات المختلفة يساعد على الحوار بين الثقافات، ويشجع على الاحترام المتبادل لطريقة عيش الآخر. ولا تكمن أهمية التراث الثقافي غير المادي في مظهره الثقافي بحد ذاته، وإنما في المعارف والمهارات الغنية التي تنقل عبره من جيل إلى آخر. والقيمة الاجتماعية والاقتصادية التي ينطوي عليها هذا النقل للمعارف، تهم الأقليات مثلما تهم الكتل الاجتماعية الكبيرة، وتهم البلدان النامية مثلما تهم البلدان المتقدمة. التراث الثقافي التراث الثقافي غير المادي، هو تراث تقليدي ومعاصر وحي في الوقت نفسه: فلا يقتصر التراث الثقافي غير المادي على التقاليد الموروثة من الماضي، وإنما يشمل أيضا ممارسات ريفية وحضرية معاصرة، تشارك فيها جماعات ثقافية متنوعة، فقد تكون أشكال التعبير المنبثقة عن التراث الثقافي غير المادي التي نمارسها، مشابهة لأشكال التعبير التي يمارسها الآخرون. وسواء كانت من قرية مجاورة أو أتت من مدينة تقع في الجانب الآخر من العالم، أو غيرتها جماعات هاجرت واستقرت في منطقة أخرى، تُعتبر جميعها تراثاً ثقافياً غير مادي: فقد توارثتها الأجيال، جيلا تلو آخر، وتطورت استجابة لبيئاتهم، وهي تسهم في إعطائنا إحساسا بالهوية والاستمرارية، وتشكل حلقة وصل بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، والتراث الثقافي غير المادي لا يثير تساؤلات بشأن انتماء بعض الممارسات لثقافة ما أو لا. فهو يسهم في تحقيق التماسك الاجتماعي، محفزا الإحساس بالهوية والمسؤولية الذي يقوي عند الأفراد الشعور بالانتماء إلى جماعة واحدة أو جماعات مختلفة، وإلى المجتمع ككل. تراث تمثيلي: فلا يثمَّن التراث الثقافي غير المادي فقط باعتباره سلعة ثقافية لها طابع متميز أو قيمة استثنائية بالمقارنة مع غيرها، فهو يستمد قوته من جذوره في الجماعات، ويعتمد على هؤلاء الذين تنتقل معارفهم في مجال التقاليد والعادات والمهارات عبر الأجيال، إلى بقية أفراد المجتمع أو إلى جماعات أخرى. تراث يعتمد على الجماعات: لا يكون التراث الثقافي غير المادي تراثاً إلا حين تطلق عليه هذه الصفة، الأطراف التي تنتج هذا التراث وتحافظ عليه وتنقله، أي الجماعات أو المجموعات أو الأفراد، فدون اعتراف هؤلاء بتراثهم لا يمكن لأحد غيرهم أن يقرر بدلا عنهم، إن كانت أشكال التعبير هذه أو تلك الممارسات تشكل جزءا من تراثهم. ما التراث الثقافي غير المادي؟ اعتمدت اليونيسكو «منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة» اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي في 2003، ووقعت عليها معظم البلدان العربية تباعا، وسميت الاتفاقية بالتراث الثقافي اللامادي تمييزا لها عن الاتفاقية الشهيرة التي اعتمدتها اليونيسكو في 1972، لحماية التراث المادي الملموس تحت اسم اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي، وكذلك لأنها اهتمت بالأساس بحماية التقاليد والعادات والممارسات الثقافية الموروثة للشعوب، التي هى غير مادية بطبيعتها، في مواجهة انتشار النمط الثقافي للعولمة وسيادته دوليا. ورغم أن الاتفاقية تهتم بالتراث غير المادي للشعوب والحفاظ عليه، إلا أن نطاق عملها قد يمتد ليشمل بعض النواحي المادية المرتبطة بذلك التراث المعنوي؛ مثل الأدوات التي ترتبط به كالآلات الموسيقية في الغناء الشعبي، ومعدات التصنيع في الحرف الشعبية، والأماكن والمواقع الطبيعية التي ترتبط بها طقوس معينة. جهود دولية 3 اتفاقيات لليونيسكو اتفاقية 2003 لصون التراث الثقافي غير المادي اتفاقية 1972 لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي اتفاقية عام 2005 لحماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي «حماية التنوع الثقافي» فنون مشتركة لدول البحر الأحمر الطرب والموال البحري السمسمية التربلة «الطنبورة» السيرة الرفيحي الرجيعي اليماني الخبيتي