"بكل ما يخطه القلم وتفيض به المشاعر من القلب، أهدي هذا الكتاب وهذا العمل التوثيقي، إلى قارئ التاريخ السعودي الأول وخبير صفحات الكتب بكافة مشاربها مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز". بهذا الإهداء يفتتح أمير القصيم الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز، كتابه "الملك عبدالعزيز آل سعود وتوحيد إمامة المصلين في الحرمين"، وهو كما يذكر في إهدائه عمل توثيقي تاريخي، تمت مراجعته واعتماده من قبل دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، ويركز على مسألة غاية في الأهمية نجحت في منع التشرذم وتعدد الأئمة والصلوات والمذهبية في الحرمين، ومنعت ما أُحدث في الدين من تعدد المقامات بتعدد المذاهب الأربعة. ويستهل الأمير فيصل كتابه بالحديث عن مشروعية الاختلاف بين العلماء، وإقراره، لكنه وبعد أن يورد أدلة الحديث على هذه المشروعية، يؤكد أنها لم تمنع بعض المتشددين من أن يعمدوا إلى فرض وجهة نظر واحدة ورأي واحد ولو بقوة السيف، قديما وحديثا. ويقول "لعل السبب في موقف بعض المتطرفين وتشددهم في تخطئة غيرهم من أهل المذاهب بل تأثيمهم، اعتقاد هؤلاء أنه لا مجال لاختلاف العلماء إذا توفرت لديهم النصوص، وكأن سبب الاختلاف محصور عندهم في ثبوت النص وعدم ثبوته، فإذا توفرت النصوص لدى الجميع بسبب من الأسباب، كتدوين السنة في الصحاح مثلا، وتميز صحيحها عن ضعيفها، كان لازما أن يذهب هذا الاختلاف، وتزول آثاره بين العلماء، وتعود الآراء المتعددة رأيا واحدا لا خلاف فيه. وكثيرا ما أدت هذه النظرة السطحية الخاطئة لمسألة اختلاف العلماء في الأحكام إلى مواقف مختلفة، جعلت بعض الناس ينوء بها فيعرض عنها، وجعلت صنفا آخر منهم يتهجم عليها ويحاربها". تحذير يوضح الأمير فيصل بن مشعل أن السنة النبوية المشرفة حذرت من الفرقة، ودعت للوحدة والمحبة والأخوة، ونبذ البغضاء والمشاحنة، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على ربط الشعائر الدينية، كالمعاملات والعبادات، بتقوية الجماعة، وأبرزها الصلاة فنادى للاجتماع لها، بل وتسوية الصفوف. وأنقذ المؤسس الملك عبدالعزيز الأمة الإسلامية من مشهد فرقة يتنافى مع وحدة صف الأمة، وكانت تتجلى فيه ملامح الفرقة والتشرذم، بعدما نالت الخلافة المذهبية كثيرا من تماسكها ووحدتها وتآلفها، فلم تعد صفا واحدا، ولا جماعة واحدة، تقف في صلاتها في الحرمين الشريفين ممزقة مشرذمة، كل مذهب يصلي في جماعة منفصلة، وكأنهم من أديان متعددة. ولقد آذى هذا المشهد كثيرا الإمام الملك المؤسس، فاستنكره بفطرته النقية، وبعقيدة الإسلام الصافية التي تلقاها على أيدي علماء الدعوة الإصلاحية في نجد منذ صغره، فأخذ على عاتقه توحيد صف الأمة التي عادت على يده، إلى أحسن حال لوحدة دينية في جماعة واحدة وخلف إمام واحد، حتى وإن كانت مختلفة في مذاهبها، فهي تبقى خلافات في الفروع، في حين أن أصل المعتقد واحد، ألا وهو التوحيد. توحيد سابق لتوحيد يذكر الأمير فيصل بن مشعل في كتابه أنه "قبل توحيد المملكة ب6 سنوات، أمر المؤسس بتوحيد جماعة المصلين في الحرم المكي خلف إمام واحد وإلغاء المقامات الأربعة ومنع تعدد الأئمة للفرض الواحد، مظهرا رغبته وحرصه على توحيد البلاد من جميع النواحي، بل توحيد الأمة الإسلامية، لأن الصلاة في الحرمين الشريفين تجتمع لها الأمة من جميع أقطارها". ويضيف "كانت هذه المقامات منصوبة في صحن الحرم المكي لعدة قرون، يشكل كل منها منبرا ومحرابا لإمام يتبع مذهبا فقهيا مختلفا عن الآخر، وكانت خمسة مقامات قديما هي: المقام الشافعي، والمقام الحنبلي، والمقام الحنفي، والمقام المالكي، إضافة إلى المقام الزيدي الذي أزيل في 1325 للميلاد". وذكر الحافظ السلفي المتوفى 1180 للميلاد في معجم السفر ص 141 أن "الإمام الشافعي كان إمام مقام إبراهيم وأول من يصلي من أئمة الحرم (ويصلي خلف مقام إبراهيم، ثم المالكي ويصلي قبالة الركن اليماني، ثم الحنفي ويصلي قبالة الميزاب، ثم الحنبلي وصلاته مع المالكي في حين واحد وموضع صلاته يقابل ما بين الحجر الأسود والركن اليماني". وقال "إلا صلاة المغرب فإن الأربعة الأئمة يصلونها في وقت واحد مجتمعين لضيق وقتها، يبدأ مؤذن الشافعي بالإقامة، ثم يقيم مؤذنو سائر الأئمة، وربما دخل في هذه الصلاة على المصلين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة، فربما ركع المالكي بركوع الشافعي أو الحنفي، أو سلم أحدهم بغير سلام إمامه". ترجيح يُرجح أن تعدد المقامات في الحرم أُحدث في القرنين الرابع أو الخامس، وينقل الأمير فيصل بن مشعل وفيما يتعلق بترتيب أداء الفرض بينهم، عن الدكتور فوزي ساعاتي، عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى، بمكة المكرمة، في دراسة له بعنوان «المقامات الأربعة في المسجد الحرام » أن الناس كانوا يؤدون الصلاة خلف إمام واحد، هو إمام مقام إبراهيم عليه السلام الذي أصبح يقابله فيما بعد مقام الشافعية، قبل إحداث المقامات، فلما أُحدثت أصبحت الصلاة الواحدة تقام أربع مرات، وينتصب لكل إقامة إمام مذهب من المذاهب الأربعة، ويصلي أتباع كل مذهب على الأغلب وراء إمام مذهبهم، فيصلي الشافعي، ثم الحنفي، ثم المالكي، ثم الحنبلي، في كل الصلوات ماعدا المغرب، يصلونه جميعا في وقت واحد نظرا لضيق الوقت". ويضيف "يذكر المؤرخون أن بداية الأمر كانت فيها سعة لأن المصلي إن فاتته الجماعة الأولى أدرك غيرها مع أي مذهب كان، ثم لوحظ أن بعضا من الناس يكون في المسجد الحرام والصلاة قائمة فلا يصلي مع المصلين متعللا بانتظار إمام مذهبه ليصلي خلفه، وأخذ عدد المتخلفين عن الصلاة تعصبا للمذهب يكثر ويزيد حتى وصل إلى مرحلة خطرة، ومنها وضعت القاعدة المشهورة عند الفريقين "تكره الصلاة وراء المخالف في المذهب". تعدد الأئمة في الحرم المدني، كان للحرم الشريف 15 إماما منهم الحنفيون ومنهم الشافعيون، وله 21 خطيبا، منهم 12 خطيبا حنفيون، و8 خطباء شافعيون، وخطيب واحد مالكي، فالأئمة يصلون بالنوبة في كل يوم إمام واحد من الحنفية وإمام من الشافعية، فيبتدئون من الظهر إلى الصبح، والإمام الشافعي يصلي أولا، ثم الإمام الحنفي، إلا في المغرب، فيتقدم الحنفي لكراهة تأخير المغرب عنده، ويصلي الإمام الحنفي يوما في محراب النبي الذي في الروضة الشريفة، فيصلي الإمام الشافعي ذلك اليوم في المحراب الذي هو خلف المنبر، ثم في ثاني يوم يصلي الإمام الشافعي كذلك، ويصلي الحنفي مثلما صلى هو أول يوم". ولم يحدث هذا التعدد الطارئ على المدينة، إلا بعد القرن السابع، وكانت المدينة طيلة 7 قرون تصلي الصلوات كلها بإمام واحد ولا تتعدد فيها الجماعة لفريضة واحدة، بل إن مالكا رحمه الله وهو إمام دار الهجرة ممن يكره تعدد الجماعة في المسجد الواحد للفريضة الواحدة. جدل ظل دور المقامات بوصفها محاريب للصلاة محل جدل بين العلماء من مجيز ومنكر منذ بدأ تعداد صلاة الفرض الواحد بينها، لتسهم بذلك في زيادة الفرقة وتأجيج الصراع والتعصب المذهبي بين علماء المسلمين وعوامهم، دون أن يتخذ أي حاكم ممن ولي أمر الحجاز وقتها على مدى تاريخه قرارا حاسما حولها، لتنتقل ظاهرة انقسام جماعة المسجد في أداء الفرض الواحد إلى المسجد النبوي الشريف وبقية الجوامع الكبيرة في العالم الإسلامي كالجامع الأموي في الشام، والجامع الأزهر في مصر، فتعددت فيها الجماعة للصلاة الواحدة، مما يؤكد الدور الريادي الذي يمثله المسجد الحرام للعالم الإسلامي. واستمرت الحال على ما هي عليه، حتى بادر الملك المؤسس بتوجيهات للعلماء بعقد اجتماع لبحث أصل مقامات المسجد وحكم انقسام جماعته لجماعات متفرقة، وأن يضعوا توصياتهم عن طريق توحيد جماعة المسجد بما يحقق المصلحة العليا للمسلمين خوفا من أن يؤخر هذا الأمر وحدة البلاد التي كانت من أهم أهداف المؤسس للقضاء على ما يحدث من شقاق بين أهلها. وحسم الأمر عندما اجتمع فريقان من العلماء عام 1926، مثل أحدهما علماء الحجاز والآخر علماء نجد، واتفق الجميع بعد التباحث على أن تكون صلاة الجماعة التي تقام في المسجد جماعة واحدة أيا كان مذهب الإمام، وانتخبوا من كل مذهب ثلاثة أئمة، اختاروا منهم إمامين يتناوبان في أوقات الصلوات الخمس، فكان من الحنابلة الشيخ عبدالظاهر أبوالسمح والشيخ حمد الخطيب، ومن الشافعية الشيخ عبدالرحمن الزواوي والشيخ محمد علي خوقير والشيخ عمر فعي، ومن الحنفية الشيخ عباس عبدالجبار والشيخ عبدالله بن مرداد، ومن المالكية الشيخ أمين فودة والشيخ عبدالله حمد وهو الشيخ عباس مالكي. مذهب خامس كان الناس قبل العهد السعودي يصلون جماعات أربعة، بل كانوا يصلون في بعض العهود خمس جماعات، بعد إضافة جماعة المذهب "الزيدي"، وما إن توحدت جماعة الحرم خلف إمام واحد حتى انتقل الأمر إلى باقي مساجد العالم الإسلامي، فاختفت ظاهرة انقسام جماعة المسجد من العالم الإسلامي إلى الأبد. وساهم هذا القرار في استغلال كل المساحة الإجمالية للمسجد الحرام. اجتماع لم يكن توحيد الإمامة إلا خطوة في الرجوع إلى أصل الدين ومقتضياته، فمشروعية صلاة الجماعة هي اجتماع المسلمين وأن تعود بركة بعضهم على بعض وألا يؤدي ذلك إلى تفرقة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله بهدم مسجد الضرار لما اتخذ لتفريق الجماعة. وبهذا التوحيد رد الملك المؤسس إلى الحرمين روحانيتهما مكتملة، وجمع قلوب الأمة قبل صفوفها من جديد في جماعة واحدة، وخلف إمام واحد، ومحراب واحد، يعبدون ربا واحدا، وهو جوهر دين الإسلام، وأصل عقيدته. سيرة المؤسس يورد الأمير فيصل بن مشعل في مقدمة كتابه أن الملك المؤسس رحمه الله "لم يكن ينظر إلى تأسيس بلاده بوصفه معركة أو مجموعة معارك جهادية، خاضها بنفسه، أو أرسل إليها قادته على رؤوس جيوشه، ليخضع نثار عدد من البلدان المترامية في شبه الجزيرة العربية تحت كيان واحد أصبح يسمى المملكة العربية السعودية، بقدر ما كان ينظر إليها نظرة الإمام الذي يؤم مصلين بعدما أذن فيهم وقبل أن يصلي بهم ظل يستدير يمنة ويسرة يتفقدهم ليتأكد من استواء صفوفهم، وملء فرجاتها، حتى تكتمل صلاتهم، ويغنموا أجرها عند الله". هاجس يشدد المؤلف في مقدمته على أن "فكرة وحدة النسيج الاجتماعي والإنساني بقيت هاجسا رئيسا عند المؤسس"، مشيرا إلى أن هذا الهاجس تمثل بأن الكيان الوليد لن يتحد بحد السيف وحسب، ولن يكتمل ويصبح بنيانا قويا إلا بتوحد قلوب المجتمع الذي يظله هذا الكيان". ويخلص الكتاب إلى أن المؤسس امتلك قدرا نادرا من الذكاء السياسي، والقراءة العميقة لنفسية المجتمعات والقبائل، وهو ما يجعل الحديث عنه يخرج عن إطار التطرق إلى قائد عسكري وحسب، بقدر ما يضعنا أمام قيادة إنسانية عميقة واعية تمتلك نظرة شمولية لها (كاريزما) نادرة. الكتاب "الملك عبدالعزيز آل سعود وتوحيد إمامة المصلين في الحرمين" المؤلف الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز المراجعة والاعتماد دارة الملك عبدالعزيز بالرياض الإصدار 2018 عدد الصفحات 102 المحتويات مقدمة 3 فصول 1 الفصل الأول: اختلاف الأئمة.. رحمة. 2 الملك عبدالعزيز موحد صفوف الأمة في الحرمين الشريفين 3 الأمة الإسلامية تشيد بموحد جماعتها التقديم الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس قصائد وشعراء أحمد شوقي عباس محمود العقاد محمد بن عبدالله بن عثيمين محمد الزبيدي محمود حسن إسماعيل خير الدين الزركلي الصور صورة للملك المؤسس والملك سلمان 14 صورة تاريخية للحرمين في أطوار مختلفة