الآخر هو أنا أو أنت، فكل واحد منا هو آخر بالنسبة للمقابل له، مهما كانت قرابته منك أو علاقته بك أو درجته لك، فهو يُمثل شخصية مستقلة بذاتها تحمل عددا من السمات والقدرات والاهتمامات والمعتقدات والاحتياجات والرؤى والأفكار، ولا يمكن أن تتطابق شخصية مع أخرى، ولكن يمكنهما الاقتراب والتداخل والانسجام والتعاون مع بعضهما في بعض التوجهات والمعتقدات والمشتركات مع فارق الدرجة في الأداء والاهتمام. وتتحدد قيمة الآخر بناء على درجة قربه أو بعده ومنفعته من ضرره والحاجة له من عدمه، فأول آخر لك في وجودك هو أمك ثم أبوك وبعدهما أفراد أسرتك ومحيطك الاجتماعي في دائرة حياتك، ثم يتشكل الآخر تدريجيا ضمن درجات الفوارق في دائرة الوطن، وتتشكل هوية الأنا من خلال الآخر اللصيق بنا وهما الوالدان أولا، فمن خلالهما نتغذى على سمات ومواصفات وحب وكره الآخر القريب منا، وهم الإخوة والأقارب ثم تشترك هذه الفئة جميعا في تشكيل هوية الآخر البعيد عنا، وهكذا يتم التوسع في بناء شخصية الآخر في نفوسنا شيئا فشيئا حتى تكبر الدائرة وتشمل كل أفراد مجتمع الوطن. ومن خلال الآخر يتم بناء الهوية وتتشكل على ضوء المعارف والقيم والعادات والتقاليد والمعتقدات والثقافة التي تلقتها الأنا خلال مسيرة بنائها وكوّنت لديها تصنيف الأفراد ضمن دوائر التقاطع في بعض جوانبها، بحسب قربها وبعدها، فكلما زاد عدد التشكلات وابتعد الآخر عن مركز الأنا يكون التأثير ضعيفا، نظرا لاتساع محيط دوائر الآخرين، فالوطن الواحد هو شبكة كبيرة من الدوائر المتعددة التي يجمعها محيط واحد وهوية مشتركة في الدين واللغة والعرق والقيم والاتجاهات، ويديرها نظام سياسي وعلاقات اجتماعية ومصالح اقتصادية ورؤية وطنية تأخذ الجميع نحو اتجاه واحد من أجل تحقيق المصلحة الوطنية الكبرى. ولكن المشكلة تكمن في بُؤرة الأمراض والمعضلات الاجتماعية التي تصيب أي وطن وتحتاج إلى لقاحات وجرعات تقوي مناعة كل مواطن فيه منذ بداية نشأته على فترات زمنية ضد الأوبئة الفتاكة للوطن والتي يصعب علاجها مع تقدم المجتمع، كلقاح التهاب التمييز العنصري والطائفي والمذهبي والقبلي والسياسي، وشلل العنف ضد الطفولة والمرأة، ودرن انتهاك حقوق الإنسان، وجدري الفساد والرشوة، وحصبة الظلم والقسوة والتسلط، وبكتيريا انعدام حرية الاختيار وثقافة الاختلاف، والحمى الشكوكية للإرهاب القاعدي والداعشي. لقد سئمت أوطاننا من تفشي الأمراض والأوبئة المجتمعية، والتي حولت الآخر إلى عقبة أمامها ومشكلة في طريقها، وكل ذلك نتيجة المُدخلات والتغذية الأولية في ميلاد كل هوية جديدة، وتعتبر أن كل آخر يجب تصنيفه بحسب المصلحة والمنفعة من عدمها، وبحصر التماثل والتطابق وبعنوان الاتفاق أو الضد وبنظرة القرب والبعد، حتى أصبح الآخر كيانا مرعبا ومرفوضا من الوجود ومعدوما من الحقوق، وبعيدا عن المشاركة والتفاعل في الوطن. الآخر في فقه الوطن يجب أن يكون جزءا من الذات ومتأصلا فيها، ونفيه بتر لها رغم أنه ضروري لاكتشافها، وتصور الذات لا ينفصل عن تصور الآخر، فمن الخطأ أن نرفض الآخر الحاضر في ذاتنا، فالهوية تُبنى على التفاعل بين الاثنين، فالذات السليمة حاضرة في واقعها متصالحة مع نفسها تُحب لغيرها ما تُحب لنفسها، وتُؤمن بالتعدد وحرية الاختيار وثقافة الاختلاف وتبادل الحقوق والواجبات مع الآخر، وترى أن صورتها انعكاس لوجود الآخر في حياتها، وأن كل تناسق في لوحة الوطن يعني أن مفهوم الآخر منسجم فيها ولا يمكن الاستغناء عنه، فالآخر قد يكون أنا أو أنت.