كان «درب زبيدة» أطروحة جامعية عالية، وكان «معلمة» جديدة في «طرق الحج ومسالكه»، وصل به سعد بن عبدالعزيز الراشد، علما ظن أنه عفا وهجر، فما الذي يحمل شابا قد تخرج في الجامعة عام 1389- 1969، على أن يختار موضوعا شاقا، يغشى فيه الصحراوات والأودية، يتتبع صاحب «كتاب المناسك» وغيره من العلماء الأفذاذ، ينقّب ويبحث ويستثير المعاجم ومصنفات التاريخ والجغرافيا والفقه والأخبار والنوادر، فعساه يظفر بخبر يجلو له طرفا من تاريخ هذه الجزيرة العربية، وكان ذلك الشاب يوم تخرج، ثم يوم اختار موضوعا نافرا كهذا، يعترضه الإخفاق قبل النجاح، والقعود عنه بدل الإقبال عليه، وعساه كان يحنو على تلك الأمكنة -وكثيرٌ منها مقفرٌ موحشٌ- يستعطفها حتى يدر درها، فتكشف الخبيء المركوز في رمالها، فإذا عاين «علامة» أو «منارا»، فرح وتهلل، وأنشأ يقرأ مجاميع التاريخ، سطرا سطرا، يلتمس فيها الشاهد والمثل، وهمّه أن ينشئ «سيرة» لتلك الطرق والدروب، ويبعث تاريخا ساخ في رمال الصحراء. كنت أقرأ «درب زبيدة» بعينين تخالف إحداهما الأخرى، عين تقرأ في الكتاب ظاهره: الطرق والمراحل والأمكنة والصوى والعلامات، وأخرى تقرأ شيئا ثاويا خلف الكلمات والجمل والسطور، وكنت أحس في كل مكان أسماء من نزلوا فيه ومن سلكوه، أتخيل هارون الرشيد لما أقسم ليحُجَنّ ماشيا، فأراد وزيره عمرو بن مسعدة أن يثنيه عن عزمه، فلما أبى الرشيد استمهله وزيره عاما حتى يسهل له الطريق «فأمر عمرو بالأنهار فعرجت عن مسيلها، وبالآكام فسويت، وبالخنادق والأودية فردمت، حتى صار ما بينه وبين مكة كالراحة الموزونة، وصارت الأنهار والأودية تسايره على طريقه. ثم صنع له مراحل، قد حدد له عند كل مرحلة حدا، وابتنى في كل مرحلة دارا، ثم أمر بالمراحل ففرشت بالبسط الرهاوية، ونصب له جدارا بالسور، وسمكها بأكسية الخز الرفيع الملون، وقد ضرب عند كل فرسخ قبة مزوقة، قد أقام فيها الفرش الممهدة، وقد أحاط بها الظلال الممدودة بالرواقات الكثيفة، فيها أنواع الطعام والشراب وألوان الفاكهة! وأتتبع السيدة زبيدة بنت جعفر الأكبر بن أبي جعفر المنصور، زوج أمير المؤمنين هارون الرشيد، في كل ناحية منه، تشق الطرق، مرحلة مرحلة، وتقيم منازل للحجيج، وتحتفر الآبار، وتشيد برك الماء، وتبذل لإرواء أهل مكة، دون حساب، فلما قال لها وكيلها: «يلزمك نفقةٌ كثيرة»! قالت: «أعملها ولو كانت ضربة فأس بدينار»، «فبلغت النفقة عليها ألف ألف وسبعمئة ألف دينار»! ويهولك كلام المؤرخين، يصفون سقياها أهل مكة، بأنها «أسالت الماء عشرة أميال بحط الجبال، ونحتت الصخر حتى غلغلته من الحل إلى الحرم»، حتى صار من ديدن علماء الطرق والمسالك، أن يكرروا هذه الجملة، بغير وجه من وجوهها: «وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة، هي آثار زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور؛ زوج هارون الرشيد وابنة عمه، انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها إلى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق، والله كفيل بمجازاتها والرضا عنها»، وتقرأ في «معلمة» الراشد حديثا مبسوطا عن رجال ونساء بذلوا الأموال الضخمة على تذليل طريق الحج إلى البيت العتيق، مهما تعاقبت القرون. وفي «معلمة» الراشد فوق ما ذكرت؛ وقف على الطرق والمسالك، وقابلها بما قاله الأقدمون. أحصى المراحل والمحطات، ونقب عن البرك والآبار، وفك معمي النقوش، وأثبت العاديات والمخلفات، وانطوى الكتاب على تقص في الآثار والتاريخ والحضارة، وأنطق الدروب والمسالك، فاستعان بالتاريخ، حتى أشرف بنا على العصر الحديث، تقوى دولة الخلافة فتؤمن الطرق، وينعم الحاج بالماء، والطعام، والمنازل، وتضعف فتهدم الآبار والبرك، ويفشو الخوف والفزع، ويعيث القرامطة فسادا، فيغيرون على قوافل الحجيج، يقتلون، ويأسرون، وينهبون، وينقطع الحج عن بعض النواحي أحد عشر عاما! ويهجر أقوامٌ، فإذا ما استطعم الناس الأمن والرخاء، حينا من الزمن، تسلط الأعراب على الطريق، فتنتشر الفوضى، مرة أخرى، ولم يحس الحاج أنه إنما يسلك دربا آمنا إلا حين بسطت الدولة السعودية الأولى سلطانها على تلك النواحي، فأمّنت الطرق، وجردت السيف على القبائل التي تقطع على الحجيج الطريق، فلما تأسست المملكة العربية السعودية «شاع الأمن، وتيسّرت السبل، وتطورت حركة المواصلات البرية والبحرية والجوية (...)، وأصبح الحجاج من كل حدب وصوب يفدون إلى المملكة العربية السعودية، عبر كافة المنافذ، لأداء مناسك الحج والعمرة آمنين مطمئنين». لم يكن كتاب «درب زبيدة»، بالقياس إلى الدكتور سعد عبدالعزيز الراشد، أطروحة جامعية عالية، وحسب، أنفق في إعدادها سنوات، فلما ظفر بالدرجة العلمية، ودفعها إلى المطبعة، أعرض عنها. كان الكتاب رفيق عمره، كتبه شابا، وجعل يعاود النظر فيه كهلا وشيخا، وكان قلب الشاب والكهل والشيخ معلقا بذلك «الدرب»، منذ وقف عليه، أول مرة، عام 1388 = 1968، ثم عاد ثانية فقصده عام 1404 = 1983، وكانت الثالثة عام 1408 = 1987. وأنا إن فاتني أن أقرأه في طبعته الأولى عام 1414 = 1993، فقد ادخر لي الله -تبارك وتعالى- أن أقرأه في طبعته الثانية عام 1440 = 2019، وليس من السرف في شيء أن أعتد هذا الكتاب من أَجَلّ ما أخرجته المكتبة العربية في جغرافية الحج وتاريخه، وكأنما كان مؤلفه سعد الراشد امتدادا لصاحب «كتاب المناسك وطرق الحج ومعالم الجزيرة»، لا فرق بينهما إلا أن هذا الأخير من علماء القرن الثالث الهجري، وصاحبنا سعد الراشد من علماء القرن الخامس عشر، وهذا وذاك ينتسبان، معا، إلى شجرة العلوم الإسلامية في أزهى عصورها.