جناية أن نتخلف عن الميدان وننزوي عن المعركة. وجناية ألا نتفاعل مع الأحداث بمشاعرنا وأفكارنا وأعصابنا. وجناية أن ندع المنظار القاتم يصور لنا كفاح المخلصين تهوراً، وعزائم الأبطال مغامرةً. وجناية أن نتجاهل الجهود المبذولة، ونتعامى عن الواقع المائل لنفترض وهماً أو نتخيل باطلاً. والأحداث والشدائد تحسن دائما إلى الأمم، فتجمع صفوفها، وتوحد جهودها، وترتفع بأفكارها وعلاقاتها، بعيداً عن الخلافات والأحقاد والنزعات، وعامل الحرارة الرهيب تستحيل به المعادن الصلبة المتجمدة إلى سوائل متحركة قابلة للتكييف، وما ذاك إلا لأنه أقوى من واقعها، وأقسى من مادتها. والأحداث تطغى دائماً على النزاع والخلاف، فتُحيل الضعف قوة، والتساهل حزماً، والتهاون حرصاً، وهي تقترب بالمكافحين من آمالهم وأهدافهم، وكأني بالشاعر العربي يريد هذا المعنى، حيث قال: تأبى الرماح إن اجتمعن تكسرا... وإذا افترقن تكسرت آحادا وداعية الخلاف والفرقة في معترك الأحداث أقسى من الأحداث وأخطر من سببها؛ لأنه يذيب روح المقاومة في أمته، ويعين الأحداث عليها، والويل لها إن تشاغلت بباطله عن واقعها، وهي في ساعة شدة، وفترة حرج. وكما أن الأحداث تصنع المعجزات في توحيد الصف والجهد، فهي تصنع أكثر منها في كشف الحقائق، وإيضاح النفوس، لمن يعتبر! ولستُ أدري مم يتكون هذا الكيان الكبير إن لم يكن مني ومنك؟، ولستُ أدري كذلك ما الذي يمكن أن نؤديه لديننا وحكومتنا وأمتنا، إن لم نوحد أهدافنا، وندرك دقة أحداثنا، ونتبين معالم مستقبلنا؟. ولقد تعرضت بلادنا الحبيبة اليوم لمثلِ هذا الدور، وأثبتَ شعبها المسلم كعادته فهمه العميق لدوره، وحرصه الأكيد على مستقبله، وتعلقه المخلص بقادته، والوقائع هي الدليل الواضح لما أقول والحمدلله. * كتاب «دورنا في الكفاح» * 1961