بسن الخمسين وبتكلفة تخطت المائة مليار دولار، حسب التقديرات، يواصل برنامج إيران النووي خطاه متوكئا على العقوبات وجالباً الويلات للبلاد للوصول إلى المجد النووي. وبعد هذا الزمن وتلك التكلفة يأتي من يتساءل - وهم كثر- عن طبيعة هذا البرنامج والأهداف الحقيقية من ورائه، وهي تساؤلات نابعة من مسألة بقاء ومصير شعوب المنطقة والعالم أجمع. بدأت إيران برنامجها النووي أيام الشاه محمد رضا بهلوي في خمسينيات القرن الماضي، كقرار سياسي، وبتعاون أميركي، عندما وافقت أميركا على مساعدة إيران في الحصول على الطاقة النووية السلمية بشرط – وهنا مربط الفرس – التزام إيران بعدم السعي للحصول على السلاح النووي. وكمصداقية لذلك الالتزام، كانت إيران من أوائل الدول التي وقعت على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية عام 1968، ومن أهم بنودها، عدم سعي الدول غير النووية للحصول على السلاح النووي في مقابل حصولها على برنامج نووي سلمي بمساعدة الدول النووية، وكذلك الالتزام ببرنامج الضمانات الشاملة التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويندرج تحت هذا البند، الإفصاح عن أي نشاط نووي، وهذان البندان لم تلتزم بهما إيران، وهذا يعد خرقاً للمعاهدة. حدث ذلك غير مرة، فمنشأة نطنز المخصصة لتخصيب اليورانيوم، ومفاعل الماء الثقيل في آراك لم تعلن عنهما إيران، وإنما جاء خبرهما من مجموعة منشقة في الخارج في 2002، وقد أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 2005 عدم امتثال إيران لاتفاق الضمانات الشاملة المبرم معها، وتم إحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن، وفي 2009 تم الكشف عن منشأة نووية أخرى قريبة من قم مخبأة تحت الأرض اسمها فوردو، وهي أيضاً مخصصة للتخصيب وبدرجات عالية. فلماذا أخفت إيران هذه المنشآت الحساسة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية. إن الطبيعة المزدوجة للتقنية النووية تجعل الحكم على أي برنامج نووي على أنه سلمي أو عسكري عملية معقدة، خصوصاً في ظل شح المعلومات المتوفرة عن البرنامج، ولكن هناك بعض الدلائل التي قد تساعد في فهم طبيعته، ولكي تتضح الصورة، يجب أن تعلم أن القنابل النووية يتم إنتاجها من مواد انشطارية، إما يورانيوم عن طريق التخصيب أو بلوتونيوم عن طريق إعادة معالجة الوقود المستهلك من المفاعل، ولقد استخدمت أميركا كلتا المادتين (من باب العدل الأميركي) في أول استخدام حربي للقنابل النووية، ففي القنبلة التي ألقيت على هيروشيما استخدموا اليورانيوم عالي التخصيب، أما في نجازاكي فقد استخدموا البلوتونيوم. محور خلاف إيران مع الغرب يتمركز حول هذه المنشآت السرية الثلاث (نطنز، فوردو، آراك)، ففي ظل معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، يحق لأي دولة بناء منشآت لتخصيب اليورانيوم، بشرط ألا يكون إعداده لغير الاستخدام السلمي مع إخطار الوكالة الدولية للطاقة النووية عن ذلك النشاط النووي، ولكن إيران لم تفعل ذلك، فلماذا هذه السرية؟ ولماذا شيدت منشآت التخصيب تلك (نطنز وفوردو) تحت الأرض بعشرات الأمتار؟ ونشرت منظومة الدفاع الجوي إس-300 المضادة للهجمات الجوية حول منشأة فوردو، ولماذا لم تسمح لمفتشي الوكالة زيارة تلك المنشآت النووية إلا بعد مضي بضعة أشهر؟ وما حاجة إيران في تخصيب اليورانيوم قبل اكتمال مفاعلها النووي؟ كما أن تخصيب اليورانيوم محليا في إيران لا يعطي جدوى اقتصادية حسب تقرير لمعهد كارنيجي، فموارد إيران من خام اليورانيوم الطبيعي محدودة، ودرجة نقاوته متدنية، وتكلفة استخراجه عالية، وما تحويه إيران من يورانيوم لن يكفي لتشغيل مفاعل بوشهر لمدة تزيد عن تسع سنوات كما جاء في التقرير، فلماذا الحرص على التخصيب مع أن شراء اليورانيوم من الخارج أرخص، وهناك عدة دول استغنت عن التخصيب محلياً لذات الأسباب من ضمنها بلجيكا والسويد. ثم ما دوافع إيران من امتلاك مفاعل الماء الثقيل (مفاعل آراك)، حيث إن من عيوب هذا النوع من المفاعلات - وميزة للبعض الآخر- إنتاج البلوتونيوم بكمية تكفي لصنع قنبلة نووية، ففي دول مثل كندا يرحل البلوتونيوم من مفاعلات الماء الثقيل إلى أميركا، فهو للكنديين نفايات مشعة وللأميركيين بارود قنبلة. كما أن الطاقة التي ينتجها مفاعل آراك قدرها 40 ميغاوات، ومن المعلوم أن المفاعلات بهذه الطاقة غير مخصصة لإنتاج الكهرباء (محطات الطاقة النووية المخصصة للكهرباء تنتج في حدود 1000 ميغاوات)، وإنما هي مناسبة لإنتاج البلوتونيوم المخصص للمسار العسكري النووي، فالقنبلة الباكستانية مصنوعة من بلوتونيوم أُنتج في مفاعل ماء ثقيل! كما يستخدم الماء الثقيل كمبرد ومهدئ للنيوترونات (الماء الثقيل هو نفس الماء العادي ولكن يحتوي على نظير الهيدروجين بدلا عن الهيدروجين العادي)، ويستخدم في هذا النوع من المفاعلات اليورانيوم الطبيعي كوقود عوضا عن المخصب، وبالتالي فهو أكثر كفاءة في إنتاج البلوتونيوم من الماء الخفيف (العادي) المستخدم في المفاعلات الأخرى. وليس معلوم كم من البلوتونيوم يمكن إنتاجه في ذلك المفاعل، لكن كقاعدة عامة في هذا النوع من المفاعلات، كل 1 ميغاوات تنتج جرام واحد من البلوتونيوم في اليوم، أي أن مفاعل آراك يمكنه إنتاج 1.2 كلج في الشهر، وبالتالي قنبلة نووية كل ستة أشهر تقريباً (قنبلة نجازاكي كانت تحتوي على 5 كج فقط من البلوتونيوم). الإيرانيون يقولون إنه سيخصص لإنتاج نظائر مشعة لأغراض طبية وصناعية، وليحل محل مفاعل طهران البحثي، لكن لا توجد دلائل على ذلك لا من ناحية طاقته ولا من كمية الماء الثقيل فيه. وحسب الاتفاق النووي مع إيران، فإن هذا المفاعل سيعاد تصميمه مع تخفيض لكمية الماء الثقيل فيه. كما أن الأرشيف النووي الإيراني الذي تم سرقته من طهران من قبل عملاء الموساد العام الماضي يفضح كذب إيران بشأن عملياتها السابقة والمعلومات التي أدلت بها للوكالة، حيث كشف الأرشيف عن وجود معدات نووية لم تفصح عنها إيران، وهذا يعد خرقاً للبند ال14 من الاتفاق النووي الأخير معها، فيما يعرف بخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، والذي يلزمها بالكشف عن ماضيها النووي وكل ما يتعلق به، وقد يكون هذا أحد الأسباب التي دعت الرئيس الأميركي للانسحاب من الاتفاق. جميع التصريحات الرسمية الإيرانية سواء من الساسة أو من المرشد تشير إلى أن البرنامج النووي سلمي، ففي بداية البرنامج أعلن الشاه أن الهدف منه أن يكون رافداً للطاقة في البلاد، وبعد الثورة، أفتى مرشدو إيران على مر السنوات بحرمة تطوير الأسلحة النووية واستخدامها، فكيف الجمع بين ما يقال ويفتى وما يعمل به ويشاهد؟ فالمتتبع لنشاط إيران النووي يشك في سلميته، ودول المنطقة في حاجة لضمان عدم تحول إيران إلى دولة نووية.