طُرِح في هذه الليالي سؤال اتخذ الجواب عنه تجاذبا كان في معظمه حاداً ضد السلفية، ونصه: ما العيب في السلفية؟ وإليكم الجواب بالاختصار ثم بالبسط، أما الاختصار فأقول: لا يوجد أي عيب في السلفية قديما أو حديثا، بل هي منهج كامل خالٍ من العيوب مليء بالمحاسن يعجز المفكرون عن تعداد خصائصه وسبر جمالياته في كل الجوانب. هذا هو الجواب باختصار، وأعلم أن ممن سيشرفني بقراءة هذا المقال من سيتوقف عند هذا القدر، إما رضا به أو ضجرا منه، ومنهم من سيكون هذا الجواب المباشر حافزا له على الاستمرار في قراءته، موافقا كان أم مخالفا، ولهؤلاء أقول: إن هناك أفهاما خاطئة عن السلفية يصدُر عنها كل من يسيء لها قاصدا أم غير قاصد، هي السبب في كثير مما تلقاه السلفية من استطالة وجور. أحدها قولهم: إن السلفية حجر للعقول على فهم طائفة من الناس وهم السلف للشريعة في حقبة تاريخية محددة، وهذا هو الجمود الفكري والديني. والحقيقة غير ذلك فإن تعريف السلفية الصحيح أنها: الإسلام كما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكما فهمه عنه صحابته الكرام. وهذا التعريف ينقسم إلى قسمين، فقولنا: كما جاء به الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمر لا ينبغي أن يختلف فيه مسلمان، لأنه لا يمكن لمسلم أن يقول: إن الإسلام هو الدين كما جاء به غير الرسول لأن الله تعالى يقول ﴿فَاستَقِم كَما أُمِرتَ وَمَن تابَ مَعَكَ وَلا تَطغَوا إِنَّهُ بِما تَعمَلونَ بَصيرٌ﴾ [هود: 112] ويقول عز من قائل ﴿قُل إِن كُنتُم تُحِبّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعوني يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [آل عمران: 31] إلى غير ذلك من الآيات القاطعة في أن الإسلام هو ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا غيره. أما الجزء الآخر من التعريف، فليس المقصود به عقول السلف المفردة وفهم كل واحد منهم على حدة، وذلك لأمرين: أحدهما: أن الله لم يجعل الحجة في عقول السلف، وليس على ذلك دليل من كتاب أو سنة، ومن فهم ذلك من السلفيين فقد أخطأ، ومن فهم ذلك من مخالفيهم فقد نسب للسلفية ما ليس فيها. الآخر: أن السلف تتفاوت أفهامهم وتختلف، بل قد تتقابل، ولو جعلنا أفهام السلف بهذا المعنى مرجعا فهذا يعني أننا نرجع إلى مختلِف، وبذلك نؤصل للتفرق في الدين الذي نهى الله عنه. لكن المقصود الحقيقي به هو طريقة السلف في فهمهم للغة العربية التي نزل القرآن بها، وكانوا هم أهلها الذين لم يَشُب فهمهم الأصيل لها أي شائب من اختلاط حسي أو معنوي بأمة من الأمم، وقد نص المولى -عز وجل- في كتابه على عربية القرآن في مواضع كثيرة، ولو فهمنا تلك النصوص الكثيرة على أنه التعريف بلغة القرآن لكان ذلك فضلة من القول لا يليق بكتاب الله تعالى المنزه عن فضول القول وما لا فائدة فيه، فيكون المراد إذاً: أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى وفق أفهامهم يُفهم، ولا يوجد أوثق من صحابة رسول الله ليكونوا مرجعا لمعرفة طرق العرب في فهم الكلام. وكما دوّن أهل اللغة طرائق العرب في بناء الكلمات وضبط أواخرها وأساليب نظمها، فقد دوّن الأصوليون طرائق العرب في فهم الكلمات مفردة أو منظومة، ثم ذكروا ما ينبني على تلك الدلالات من القول بحجية القياس وما سواها من الأدلة. وبذلك يكون المنهج السلفي أرحب ما يكون بالاختلاف حين يكون مبنيا على اختلاف مقرر بين أهل اللغة في أفهامهم، لكنه أضيق ما يكون صدرا بالخلاف المبني على فهم لا يوافق أي فهم من أفهام العرب، وذلك لأدلة أُجملها هنا في دليلين شرعي وعقلي، فأما الشرعي فقوله تعالى ﴿وَمَن يُشاقِقِ الرَّسولَ مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى وَيَتَّبِع غَيرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَت مَصيرًا﴾ [النساء: 115]، فالنهي عن مشاقة الرسول هو دليل الجزء الأول من التعريف الذي قدمناه للسلفية، والنهي عن اتباع غير سبيل المؤمنين هو دليل الجزء الثاني من التعريف، فسبيل المؤمنين يدخل فيه طريقتهم في الفهم، وأولى من ينطبق عليه وصف الإيمان هم صحابة رسول الله ومن بعدهم في ذلك تبع لهم. الثاني من الأفهام الخاطئة عن السلفية قولهم: إن هناك سلفيات وليس سلفية واحدة، وهذا القول إذا أُريد به أن السلفيين يختلفون فهذا أمر صحيح، وقد اختلف السلف أنفسهم في الرأي السياسي والرأي الفقهي وخطَّأ بعضهم بعضا، لكنهم لم يبنوا آراءهم على طريقة في الاستدلال لا تُقِرها أفهام العرب ولا مسلك مُخترَع في الدين، والخطأ لدى بعض من ينسبون أنفسهم إلى السلفية في قصرهم وصف السلفية على أنفسهم، ونفيه عمن خالفهم ممن لم يخرج بخلافه عن مقتضى أفهام السلف، أو في ادِّعاء بعضهم على السلف ما هم منه براء. فالسلفيون ليسوا هم السلفية، وإنما هم عباد ممن خلق الله يُحاكمون إلى النصوص الشرعية وإلى ما ثبت عن السلف في فهمها، فما وافقوه قُبِل منهم وما خالفوه رُد عليهم فيه، وليس الانتساب للسلفية مجردا من الاتباع عصمة لأحد. الثالث من الأفهام الخاطئة قولهم: إن السلفية ظاهرية لا تعتني بالمقاصد. فمن أراد بذلك أن السلفية هي مذهب داود الظاهري ومن تبعه في نفي المقاصد ونفي دلالة اللفظ على مفهوم الموافقة والمخالفة ونفي دلالات السياق واللحاق ونفي الأدلة الإجمالية غير الكتاب والسنة والإجماع، إلى غير ذلك من قواعد الفقه الظاهري، فالسلفيون لا يقولون بذلك كله، وردودهم على ابن حزم -رحمه الله- في كل ذلك معلومة، وإن كانوا أكثر الناس حفظا لقدر هذا الرجل واحتفاء بعلمه ونشرا له، وهذا من عدلهم لله درهم. وإن أريد بكونهم ظاهرية أنهم ينفون أن يكون للفظ الشرعي ظاهر وباطن ويُحَكِّمُون النصوص الشرعية، فهذا حق لا ريب فيه، بل الريب فيمن خالفه. أما القول بأنهم لا يقولون بمقاصد الشريعة، فجوابه أن مقاصد الشريعة مستنبطة من نصوص الكتاب والسنة، لذلك فليست المقاصد أدلة شرعية، وإنما الأدلة هي نصوص الكتاب والسنة، وما دل الكتاب والسنة على صحة الاستدلال به، وليست المقاصد من ذلك. وما ثبت بالنصوص كونه مقصدا للشارع من التشريع نستفيد منه بأن يُستعان به على فهم النصوص من بيان المجمل وترجيح بعض المُخَصصات على بعض، وترجيح بعض المقيدات على بعض، وترجيح أحد معاني المشترك، أما القول بأن مقاصد الشريعة دليل مستقل قائم بنفسه فهذا ما لا سبيل إلى إثباته شرعا، وأسوأ منه القول بتقديم المقاصد على النصوص. هذه بعض الأفهام الخاطئة وليست كل الأفهام الخاطئة التي من خلالها تلصق العيوب بالسلفية، وقد اخترتها في هذا المقال دون غيرها لقلة مناقشتها في غير المحافل المتخصصة، ومن تحرر من الأفهام الخاطئة وعرف السلفية على حقيقتها وتخلص من دواعي الهوى فلن أشك أنه سينتهي إلى النتيجة التي بدأت هذا المقال بذكرها، وهي أنه لا يوجد أي عيب في السلفية قديما أو حديثا.