انتهزت طفلة الصف الأول خروج المعلمة وتربعت بقامتها الصغيرة خلف المكتب وتناولت دفاتر الواجب وشرعت في تصحيحها بالقلم الأحمر، وسط دهشة زميلاتها الصغيرات، بعضهن احترم المعلمة الجديدة، والبعض الآخر أظهر امتعاضه، فيما كافأت المعلمة الصغيرة كل طالبة أيدتها بنجمة حمراء على كراستها، وعاقبت المعارضات بوضع علامة خطأ على دفترها. لكن عودة المعلمة للفصل أنهت مغامرة الطفلة القيادية، وحوّلت امتعاض المعارِضات إلى شماتة عندما أوسعتها ضربا وتوبيخا، وتركتها تتلوى بين آلام الجسد والروح لتكون عبرة لمن يعتبر. كان ذلك الموقف كفيلا بأن ينهي أحلامها. ويسحق أطياف القيادة -التي أرقتها- تحت أقدام غليظة ترتدي خفا من حديد فوق رصيف بائس. بعد ثلاثين عاما من ذلك الحدث دوى اسمها في جنبات الرياض للمرة الثالثة على التوالي محققة درجة التميز ومحققة المركز الخامس على مستوى المملكة، والأول على منطقتها لثلاث مرات متتالية في فئة المعلمة، ثم المشرفة ثم القائدة. قائدة..!!؟ نعم لقد أصبحت الطفلة قائدة. إنها رئيسة الشؤون التعليمية بالعرضية الجنوبية شريفة القويردي. الاسم الذي يرن في أسماع تعليم القنفذة كالذهب، المربية والمعلمة والقائدة التي لم تتخل يوما عن حلمها المخملي، ولم تكن تلك العقبات والانكسارات التي واجهتها مرارا وتكرارا إلا جسرها المعلق للضفاف التي توكأت عليها شمس النجاح وهي تغريها بالعبور. لا تكاد ترى مجموعة تخرج من منزل عائلتها، أو من باب مكتبها إلا وشريفة تقودها، ولا تجلس مع عائلتها أو مرؤوسيها حتى ترى الحب الممزوج بالاحترام يطفر من أعينهم التي تروي عنها الحكايات المغموسة بالجمال. نجحت شريفة في امتلاك القلوب والعقول، حتى أصبح الجميع يتسابق في التفاني في العمل إرضاء لها، واقتداء بها، وفي كل مرة أعجز عن الفصل بين الهيبة والحب في مشاعر جميع من تقودهم. شريفة التي عُرفت بحب الانضباط والنظام حد الصرامة، لا تستحي أن تسكب دمعة بيضاء على ورقة تظن أنها سببا في تعاسة إحداهن. وفي كل مرة أتحدث معها أو مع إحدى مرؤوساتها تتملكني الحيرة في الفصل بين أنهار الإنسانية التي تتدفق في روحها وبين صرامة القيادة التي نشأت معها منذ نعومة أظفارها. عندما تحضر القائدة شريفة لمكتبها يسير العمل كما ينبغي. أما عندما تغيب فإنه يسير أكثر مما ينبغي..!! وبذلك فهي تعطي دروسا عامرة بالفكر ثرية بالقيم في فن القيادة والفروق الواسعة بينها وبين الإدارة. شريفة التي نبغت طالبة ومعلمة ومشرفة صفوف أولية ورئيسة شؤون تعليمية، قاست الأمرّين في إتمام دراستها الجامعية، وذلك بسبب افتقاد محافظة العرضيات -التي تنتمي لها- جامعة، ورحلت عن قريتها بصحبة عائلتها لقرية أخرى لإتمام دراستها الثانوية لتحظى بالقبول في جامعة الباحة التي تتبعها تلك القرية، لكن أحلامها البلورية انتثرت على صخرة تلك الجملة الصماء التي تفوهت بها مديرة الجامعة بكل قسوة: «ارجعي مرجعك»!!! (ما زالت هذه العبارة تحطم أحلام بنات العرضيات المجردات من حق التعليم العالي منذ ذلك الحين وحتى الآن وإلى أن يشاء الله...!!) فاضطرت لترك عائلتها وأكملت دراستها في جدة، عادت بعدها لتصحيح الأوراق باللون الأحمر، لكنها تخلت هذه المرة عن وضع الأخطاء على الكراسات. وتفرغت لتوزيع النجوم الحمراء على جميع من كان لهم نصيب في التعامل معها، لا سيما وهي ترى نجاحات الآخرين نجاحا شخصيا لها، فامتلأت رفوف مكتبها وأدراجه بالإنجازات مثلما امتلأت قلوب مرؤوساتها بالحب والتقدير والامتنان. شريفة القويردي في كل يوم تهدي لنا نموذجا قياديا فريدا، وشلالا من القيم الإنسانية التي غمرت تجربتها الأنيقة بالنور والبهاء.