منذ حوالي ثلاثة أسابيع كتبت مقالة تدعو لانتقال شابات وشباب الأمة لمنهجية عمل متناسقة وشاملة، في سبيل خروج أمتهم من الوضع المأساوي الذي تعيشه، على أن تكون المقالة مقدّمة لولوج أساسيات وتفاصيل تلك المنهجية المطلوبة. لكن تعاظم الأحداث المؤلمة التي واجهها الواقع العربي خصوصاً في غزة المستباحة الجريحة، واضطراري للكتابة عنها اضطرني لتأجيل متابعة مسلسل تلك المنهجية. وها نحن اليوم نعود. لقد أكدنا في مقال المقدمة أننا لا نستطيع بناء حداثتنا وما بعد حداثتنا العربية الذاتية إلا إذا استطعنا تحرير أنفسنا أولاً، بنقدية ذاتية موضوعية عميقة لحداثة وما بعد حداثة الغرب، من هيمنة وتغلغل الكثير من جوانب حضارته وثقافته السلبية، خصوصاً بعد أن بدأ هو أيضاً مؤخراً بإجراء تلك المراجعة وتصحيح ما يمكن تصحيحه من أخطاء فكرية وتطبيقية لأهمّ مكونات حداثته وحضارته. ولأن هذا الموضوع بالغ التشعب والتعقيد ننصح المتحمّسين والراغبين في ممارسة دور المثقفين الملتزمين بأن يقرأوا بعضاً مما كتبه مفكّرون متميزون في طريقة تعاملهم مع هذا الموضوع برمّته. وبالطبع هناك شخصيات متميزة حديثة كثيرة، ومع ذلك سنسمح لأنفسنا بذكر أسماء بعضٍ منها من أمثال محمد عابد الجابري، وإدوارد سعيد، وهشام جعيط، وجورج قرم، وسمير أمين، وأنور عبدالملك، وحسن حنفي، وعبدالله العروي. وتحوي مجلة «المستقبل العربي» التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية مئات المقالات لمئات الكتاب الذين عالجوا جوانب نقدية تحليلية تمسّ هذا الموضوع. من أجل أن تكون العملية الازدواجية تلك، نقد الحداثة الغربية وبناء الحداثة العربية، سلسة نحتاج أن نعي الملاحظات التالية: 1.عدم الدخول في مماحكات بناء علم الاستغراب العربي في وجه علم الاستشراق الغربي. فالغرب يقوم الآن بنقد ذاتي واسع لحداثته. فهو يعي أهمية رجوعه إلى حداثة الأنوار الأوروبية الإنسانية العقلانية الحقوقية الجادة ويترك وراءه الحداثة الغربية الحالية التي ساهمت الولاياتالمتحدة في بنائها وقادتها إلى التسطيح والتشوهات وتجاهل القيم الأخلاقية. فأن تصدر الآن عشرات الكتب في الغرب تحت مسميات عصر الظلام وعالم الفوضى ونهاية التاريخ واللعب على حافة الهاوية ونهاية الإمبراطوريات، وغيرها كثير، دليل على أن الغرب بدأ يعي ما فعلته حداثته الغربية الحالية بنفسه وبالعالم كله. وأن يتساءل المفكر الفرنسي أندريه مالرو: «من يصل إلى آذان الملائكة، صراخ الأقوياء، أم أنين الضعفاء؟»، أو أن يقول المؤرخ ويورانت عن التاريخ بأن قهقهاته هي صورة لقهقهات الشيطان، يصنع الإمبراطوريات ثم لا يلبث أن يقذف بها، أو أن يصف أحدهم المنافسات في الغرب ومع الآخرين بأنها ما عادت سباقات خيول وإنما أصبحت سباقات قطارات... إلخ من ألوف عبارات النقد واليأس والخوف من المستقبل، فإنه يغنينا عن أن ننشغل ببناء علم الاستغراب لنقد حضارة الغرب، على حساب بناء وتجديد حداثتنا الذاتية. 2. أن ندرك بأن محاولات التجديد الحضارية العربية والإسلامية ليست بجديدة، فقد بدأت منذ القرن الثامن عشر، وكان لها أبطالها من أمثال محمد عبده، والكواكبي، والأفغاني، وعشرات غيرهم. لكنها ظلت محصورة في دوائر النخب بعيداً عن دوائر الجماهير والمجتمعات الشعبية. ولذلك فإننا حالياً ومستقبلاً مطالبون بألّا نرتكب نفس الخطأ. فالزّخم الحالي من المحاولات العربية لتجديد ثقافتنا وبناء حداثتنا يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع بناء تيار جماهيري متعاطف مع التجديد ومتابع لالتزاماته ومدافع عن منجزاته. هنا تأتي الأهمية القصوى لانخراط الشباب والشابات في هذه العملية، تنظيماً ونضالاً ومجتمعاً مدنياً نشطاً. 3. ستحاول بعض دوائر الخارج المعادية لنهضة هذه الأمة وبعض دوائر الانتهازية الداخلية أن يقولوا لكم بأن جهودكم يجب ألّا تشمل بناء الإيديولوجيات الشاملة العقلانية الموضوعية، ولا وضع الاستراتيجيات التي ترسم تفاصيل الطريق، ولا انخراطكم في السياسة من أجل دعم جهود التجديد. لكن كل تلك الأقوال يراد بها إدخالكم في حياة الفردانية التائهة غير المنغمسة في حياة مجتمعاتها وشعوبها، وغير العاملة من خلال مؤسسات مجتمع مدني نشط ومتعاون مع بعضه. مثل هذه النصائح التي لا يراد من ورائها إلا الباطل يجب ألّا تضيعوا وقتكم في الاستماع إليها. وسنناقش هذه النقطة مستقبلاً، فقد استعملت عبر الخمسين سنة الماضية لإبعاد الشباب والشابات عن العمل العام الملتزم الجاد في ساحات النهوض والتقدم العربي. نقلا عن الخليج الأماراتية[email protected]