عندما كان الأديب الكبير «طه حسين» وزيرًا للمعارف المصرية، أصدر قراراً بتعيين أحد المعلمين، ولمّا تأخَّر تسلّم ذلك المعلم لمهام عمله، تقََّدم للوزير بشكوى مكتوبة موضحاً أن تعيينه تعثَّر بسبب نقص بعض «المصوغات» (هكذا كتبها)، فلما علِم طه حسين -وكان كفيفاً- أنَّ المدرس كتب «مصوغات» بالصاد بدلاً من «مسوّغات»، أمر بصرف النظر عنه، وتعيين معلم بديل. ▪️ قد يبدو القرار قاسياً في نظر البعض، لكن مَن يعرف حرص عميد الأدب العربي على حماية اللغة، وإدراكه لأهميتها بالنسبة للنشء؛ يجد له بعض العذر.. أما مَن يُشاهد أحوال أبنائنا اللغوية اليوم، وبعضهم يُنهي الثانوية العامة وهو (لا يفكّ الخط)، ناهيك عن حُسن التعبير، أو حتى القدرة على كتابة خطاب قصير، فسيجد لطه حسين العذر كله. ▪️ تدنِّي مستوى اللغة عند معظم طلاب التعليم العام أمرٌ مُشَاهَد ولا يُمكن إنكاره، خصوصاً بعد أن كشفت وسائل التواصل هذا الخلل المتعاظم، والذي لا ريب أن من أكبر أسبابه «تقليص مناهج اللغة في المدارس وضعفها».. إلا أنني لا أُبرّئ ساحة الآباء والأمهات من المساهمة في هذه المأساة، فتنامي اهتمام الاغلبية بتعليم ابنائهم اللغات الأجنبية ، يأتي للأسف على حساب اللغة الأم، وهذا نقصٌ عجيب في الوعي، ساهم فيما نُشاهده من تردّي للعربية، وشيوع للأخطاء الإملائية والنحوية بشكلٍ مُخيف ومُخجل، حتى في أوساط مَن يُفترض فيهم العلم والثقافة.. وكم ترحَّمت على الدكتور طه حسين، وأنا أشاهد مسؤولاً تعليمياً بارزاً يكتب (الفتات)، يقصد (الفتاة)!.. وهو خطأ لا يقتصر على الإملاء وحسب، بل غيَّر المعنى تماماً!!. ▪️ إن إتقان مهارات اللغة العربية ليس ترفاً تعليمياً، كما قد يعتقد البعض، بل هي مهارات أساسية ترفع من شأن صاحبها كثيراً، وتُميِّزه عن غيره، وكم كان سمو ولي العهد مُبهراً ومُلهماً وهو يكتب قبل أسابيع رسالته للأمة الكورية ببلاغةٍ مُدهشة، وخطٍ عربي جميل.. نعرف جميعاً أن سموه يُجيد اللغة الإنجليزية، لكنه أراد -يحفظه الله- تمرير أكثر من رسالة من خلال تلك السطور القليلة، أبسطها وأهمها في نظري؛ هو اعتزازه وفخره بلغته العربية الجميلة، وحثّ الشباب على تعلّمها وإتقانها، فمهما قُلنا عن تدخّل التقنية والحاسبات في أعمالنا اليوم، سيبقى (الخط الجميل) و(التعبير البليغ) مهارات إنسانية مهمة، وإتقانها في عصر اقتصاد المهارة، سيُساعدك على البروز، وتجاوز أقرانك، فضلاً عن التواصل الجيِّد مع محيطك، والوصول إلى أهدافك بأقصر الطرق. ▪️ للأديب والصحفي اللبناني جرجي زيدان كتيّب جميل اسمه: (اللغة العربية كائن حيّ)، وأجدني اليوم متفقاً معه في حياة اللغة ومرضها، بل وفي ألمها أيضاً من إهمال أبنائها، ومن أخطائهم المضحكة أحياناً. يُقال إن أحدهم أرسل لزوجته -معلّمة اللغة العربية- رسالة يقول فيها: «كيف حال جميلة الجميلاة»، فردَّت عليه بانزعاج: «جميلتك تختنق، افتح لها التاء لتتنفَّس». نقلا عن المدينة ومرسلة من الكاتب للوكاد