فيصل بن عياف يلقي كلمة المملكة في الجلسة الوزارية بالمنتدى الحضري العالمي بالقاهرة    أبرز 50 موقعًا أثريًا وتاريخيًا بخريطة "إنها طيبة"    تجمع الرياض الصحي الأول ينقذ حياة مواطنة بحالة حرجة عبر مسار الإصابات    محافظ الطائف يناقش مع الجهات الحكومية الجوانب التنمويّة    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على والدة الأميرة مضاوي بنت تركي بن سعود الكبير    "سلمان للإغاثة" يجري 54 عملية جراحية في طرسوس بتركيا    المملكة تختتم مشاركتها في الدورة الوزارية للتعاون الاقتصادي والتجاري "الكومسيك"    ترمب يوجه كلمة عاطفية للأميركيين في اللحظات الأخيرة    شتاء طنطورة يعود للعُلا في ديسمبر    المرصد الإعلامي لمنظمة التعاون الإسلامي يسجل 2457 جريمة لإسرائيل ضد الفلسطينيين خلال أسبوع    خسائرها تتجاوز 4 مليارات دولار.. الاحتلال الإسرائيلي يمحو 37 قرية جنوبية    يعد الأكبر في الشرق الأوسط .. مقر عالمي للتايكوندو بالدمام    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل المصري    الموافقة على الإطار العام الوطني والمبادئ التوجيهية للاستثمار الخارجي المباشر    أمير الشرقية يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الملك عبدالعزيز الملكية    منتدى "بوابة الخليج 2024" يختتم أعماله بإعلانات وصفقات تفوق قيمتها 12 مليار دولار    رابطة محترفان التنس..سابالينكا تحجز مقعداً في نصف النهائي.. ومنافسات الغد تشهد قمةً بين إيغا وجوف    محافظ الخرج يستقبل مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يرأس اجتماع المؤسسة الثقافية الإسلامية بجنيف    انعقاد مؤتمر الأمراض المناعية في تجمع عالمي وطبي    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    اليوم الحاسم.. المخاوف تهيمن على الاقتراعات الأمريكية    فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    إشكالية نقد الصحوة    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    سلوكيات خاطئة في السينما    إعادة نشر !    «DNA» آخر في الأهلي    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    تنوع تراثي    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    مسلسل حفريات الشوارع    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    إسرائيل تصعد من بشاعة الحرب بإنهاء الأونروا    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    أمير تبوك يستقبل القنصل البنجلاديشي لدى المملكة    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين تنصل طه حسين من مقال كتبه حتى لا يسجن ... وبالغ في المحسوبية
نشر في الحياة يوم 11 - 11 - 1999

لا أذكر زيارات طه حسين لأبي في منزلنا في ضاحية مصر الجديدة في القاهرة في الثلاثينات، غير أني أدركت منذ كنت طفلاً أن كلا منهما يعشق صحبة الآخر عشقاً، ولا يجد الراحة الحقيقية إلا في حضرته. وفسّر والدي في كتابه "حياتي" هذه المودة والألفة بينهما باختلاف مزاجيهما وطبيعتيهما، قائلاً: "هو أقرب إلى المثالية وأنا أقرب الى الواقعية، وهو فنان يحكي الفن، وأنا عالم يحكمه المنطق، وهو يحب المجد ويحب الدويّ، وأنا أحب الاختفاء وأحب الهدوء، وهو مُغال في الحكم على الأشخاص وعلى الأشياء، وأنا بطيء، وهو عنيف إذا صادق أو عادى، وأنا هادئ إذا صادقت أو عاديت، وهو واسع النفس أمام الأحداث، وأنا قلق مضطرب غضوب ضيق النفس بها، وهو ماهر في الحديث إلى الناس فيجذب الكثير، وليست عندي هذه المقدرة فلا أجتذب إلا القليل. وهو في الحياة مقامر يكسب الكثير في لعبة ويخسره في لعبة، وأنا تاجر إن كسبت، كسبت قليلاً في بطء، وإن خسرت خسرت قليلاً في بطء، يحب السياسة لأنها ميدان المقامرة، وأنا لا أحبها إذ لا أحب المقامرة، ولعل هذا الخلاف بيننا في المزاج هو الذي ألف بيننا، فأشعره أنه يكمل بي نقصه، وأشعرني أني أكمل به نقصي".
ولعل هذه المودة العتيقة التي كان طه حسين يحملها لأبي، وحاجته إلى مجاورته معظم الوقت، هما اللتان دفعتاه الى ترتيب نقل والدي من القضاء الشرعي العام 1926 وكان أحمد أمين وقتها قاضياً في محكمة الأزبكية، الى كلية الآداب في جامعة فؤاد حيث كان طه حسين يعمل مدرساً. ووجد والدي في التدريس في كلية الآداب، بعد طول تجارب، مجاله الطبيعي، بحيث يمكن القول في يُسر أن نقله إليه كان نقطة التحول الكبرى في حياته. وظل والدي الى نهاية عمره، وعلى رغم ما طرأ على العلاقة بينهما من فساد وتوتر في ما بعد، يذكر لطه حسين هذا الجميل، ويعتبره فضلاً من أهم أفضاله الكثيرة عليه.
كتب طه حسين عن هذه الواقعة في رثائه لأحمد أمين العام 1954: "وهو في اثناء هذا كله أي عمله في القضاء الشرعي الذي لم يستسغه والدي قط قلق لا يعرف اطمئناناً ولا استقراراً، ويلتمس نفسه في كتب الفقه وفي علوم الدين كلها فلا يجدها، ولا يجدها في ذلك التعليم المحدود ذي الآفاق الضيقة الذي كان يُلقى في مدرسة القضاء. وهو يحاول أن يخرج من حياته تلك التي أضل فيها نفسه، فيتصل ببيئات المطربشين، وينشئ معهم لجنة التأليف والترجمة والنشر، ويأخذ في تعلم اللغة الإنكليزية، ويخيل إليه أن الأمد بينه وبين نفسه أصبح قريباً، ولكنه على ذلك يلتمسها فلا يظفر بها".
"وألقاه في يوم من أيام حيرته تلك، وإذا هو ضيق بعمله في القضاء أشد الضيق، وإذا هو طامح إلى شيء مجهول لا يحققه ولكن طموحه إليه شديد، كل ما يعنيه هو أن يخرج من حياته تلك التي لا يستطيع عليها صبراً، ونفترق في ذلك اليوم وقد أزمعت في نفسي أمراً. فإذا كان الغد تحدثت بما في نفسي إلى استاذنا الجليل أحمد لطفي السيد. فإذا كان المساء دعوت أحمد الى لقائي، وعرضت عليه التعليم في الجامعة، فيشك غير طويل، ثم يستجيب، ولا يكاد يستقر في كلية الاداب شهراً وبعض شهر، حتى يجد نفسه تلك التي طال البحث عنها، وشقي بالتماسها أعواماً طوالاً".
وبعد أشهر قليلة من التحاق والدي مدرساً للأدب العربي في كلية الآداب، اجتمع طه حسين وعبدالحميد العبادي وأبي في منزلنا، في مصر الجديدة، ليرسموا معالم مشروع ضخم ينهض به ثلاثتهم، خلاصته أن يدرسوا الحياة الإسلامية من نواحيها الثلاث في العصور المتعاقبة من أول ظهور الإسلام، فيختص طه بالحياة الأدبية، والعبادي بالتاريخ السياسي، ووالدي بالحياة العقلية والنظم الحضارية. فأخذ أحمد أمين يحضر الجزء الأول الذي سمي في ما بعد "فجر الإسلام"، صارفاً فيه ما يقرب من السنتين حتى أتمه في آخر العام 1928، أما زميلاه فقد تكاسلا، أو عاقتهما عوائق عن إخراج نصيبيهما، فلم يخطا في المشروع حرفاً. وكان والدي وحده هو الذي درس ضحى الإسلام وأخرج كتابه فيه في ثلاثة مجلدات، اتبعه بدراسته لظهر الإسلام وأخرجها في أربعة مجلدات.
وتمضي الصداقة والألفة بين طه حسين وأحمد أمين بعد ذلك لأكثر من اثنتي عشرة سنة لا تشوبهما شائبة، حتى جاء يوم أول نيسان ابريل من العام 1940 الذي ظل والدي يعتبره يوماً مشؤوماً في حياته لأكثر من سبب، وهو الذي اختير فيه عميداً لكلية الآداب. فقد حث طه حسين أعضاء مجلس الكلية على ترشيح أحمد أمين، وراح يتصل بهم لإقناعهم بالتصويت له دون منافسيه في الانتخاب، وهم مصطفى عامر، ومحمد عوض محمد، وعبدالوهاب عزام. وكان أن فاز أبي بأغلبية الأصوات، ووافق وزير المعارف محمود فهمي النقراشي على تعيينه عميداً بعد ساعتين من إبلاغه بنتيجة التصويت.
فما مضت أسابيع قليلة حتى بدأ الخلل يدب في العلاقة بين طه حسين وأحمد أمين: توقع طه حسين، وهو صاحب الأيادي الكثيرة على أبي، وصاحب الفضل في مساعدته في الانتخاب، أن يعمل صديقه في الكلية حسب إشارته وطوع أمره، وكان الأحرى به أن يدرك أن هذا الصديق قاض قديم، يتحرى العدل ويطالب ويعمل به، ولا يُقدم إلا على ما يراه حقاً مهما كانت النتائج، ومهما كان إحساسه بجميل طه حسين عليه. فها هو طه حسين مثلا وهو رئيس قسم اللغة العربية يريد أن يرقي صديقه سليمان حزين استاذاً مساعداً للجغرافيا على رغم إرادة قسم الجغرافيا الذي رشح عبدالمنعم الشرقاوي لهذه الترقية، ووالدي يرى، وبحق، أن قسم الجغرافيا هو صاحب الاختصاص. وها هو والدي يعترض على اقتراح طه حسين قبول دخول عبدالرحمن بدوي امتحان الماجستير من دون أن يكون قد قيد اسمه له، في حين تنص اللائحة على ضرورة أن يتم القيد قبل سنة على الأقل من دخول الامتحان.
غير أن أهم دواعي الخلاف هو بصدد الدكتور عبدالرزاق السنهوري، أحب اصدقاء والدي إليه. فقد استعرت الخصومة بين طه حسين والسنهوري حين حاول الأول إملاء إرادته في وزارة المعارف. فلما عُين طه حسين مستشاراً فنياً في وزارة المعارف، واستقر الرأي على نقل السنهوري منها وتعيينه مستشاراً ملكياً، إذ بطه حسين يتدخل في اللحظة الأخيرة - أو هكذا ظن أبي - وإذا بالسنهوري يحال فجأة الى المعاش من غير إبداء للأسباب، وكان أن ثارت ثأرة والدي لهذا الظلم الذي أحاق بصديقه على يد صديقه، ثم أخذت العلاقة شكل الخصومة العلنية حين ألمح طه حسين إلى أنه يخيره بين الصداقة معه والصداقة مع السنهوري، فاختار أبي الثانية.
وهنا بدأت عين السخط "تُبدي المساويا"، وشرع أبي ينظر الى صديقه القديم في ضوء جديد:
- فهو رجل يريد فرض إرادته على كل من يعمل معه، إن خالفه في أمر ناصبه العداء.
- وهو يشجع ويرحب بكل من ينقل إليه كلاماً عن الآخرين، ولو كان مختلقاً.
- وهو في حاجة دائمة إلى التدليل، يريد الشيء ويتظاهر بأنه لا يريده، وأقرب الناس إليه من يدلله فيرجوه في قبوله.
- وهو يقيس الأشياء ويحكم عليها بشخصه دون أدنى موضوعية، فلا يتحرج من أن يكيل للمقربين إليه ما يشاء وإن لم يستحقوا، ويحرم من لا يحبهم ولو استحقوا، وعنده المحسوبية لا إلى حد.
على رغم ما استنكره والدي من المحسوبية عند طه حسين، فهو الذي رجا الدكتور طه في تشرين الثاني نوفمبر 1943، أن يوفد أخي محمد في بعثة دراسية إلى انكلترا، وأن يعين زوج أختي عبدالعزيز عتيق في المعهد الثقافي المصري في لندن، فوعده طه خيراً، وأوفى بوعده بصدد الإثنين!
وكانت مرارة أبي إزاء تسبب العمادة في تبدد صداقته مع طه حسين سبباً قوياً دفعه في النهاية إلى تقديم استقالته بعد قرابة سنتين من توليه إياها. فإذا بالدكتور طه حسين هو الذي ينبري بمحاولة إقناعه بالعدول عنها، ولكن من دون إلحاح كبير. غير أنه ما مضى عام على قبول الاستقالة، حتى أصاب والدي شعور من الضيق الشديد بالجامعة وأهلها وجوّها، فقدم طلباً بإحالته إلى المعاش. وهنا زاره طه حسين في مقر لجنة التأليف والترجمة والنشر: "فمازال يقنعني بالعدول عن الاستقالة نحو ساعتين حتى عدلت نزولاً على رجائه وتذكيره لي بالصداقة القديمة. وفي هذه الجلسة تعاتبنا طويلاً، وأبلغته ما في نفسي وما فعله معي أثناء عمادتي، وما فعله مع الدكتور السنهوري. وهو دافع عن نفسه في كل هذا دفاعاً طويلاً، ثم انصرف بعد أن أخبرني أن الوزير سيكتب اليّ خطاباً رداً على طلبي، يبلغني فيه اسفه إذ لم يقبل استقالتي حرصاً على مصلحة الطلبة".
تزاور الرجلان بعد ذلك ولكن في نطاق محدود. ومما أذكره عن تلك الفترة أمران: أن أبي اصطحبني مرة أو مرتين لزيارته، فلفت نظري قلة الكتب في حجرة مكتبه بالمقارنة بما لدى والدي منها، ورائحة الياسمين وغيره من الأزهار التي تملأ الحجرة من الحديقة التي تطل عليها، على النقيض من رائحة الكتب القوية الثقيلة التي كانت مكتبة أبي تستقبل بها روادها. الأمر الثاني هو أنه حين اقترب موعد سفر أخي محمد في بعثته الى انكلترا، استفظعت والدتي فكرة افتراقها عن ابنها البكر الحبيب، فقامت من دون علم أبي أو أخي بالاتصال بالدكتور طه هاتفياً تتوسل إليه إلغاء قرار البعثة. وكان أن طمأنها طه حسين بقوله: "سيدتي، كوني واثقة من أن ابنك لن يسافر حتى تأتيني مكالمة هاتفية منك بالإذن له بالسفر"، فلما علم والدي ومحمد بالأمر غضبا غضباًَ شديداً، وظلا يضغطان عليها حتى اضطرت في النهاية باكية الى الاتصال هاتفياً بالدكتور طه لإعطاء الإذن!
ومع ذلك فقد ظلت العلاقة بين الرجلين طوال السنوات الخمس التالية يشوبها قدر من الفتور والتحفظ لم يفلح تعاتبهما في تبريره، حتى أصيب والدي في عينيه عام 1948، واضطر الى أن يرقد طويلاً في المستشفى بعد إجراء عملية له.
وكان لطه حسين مرة أخرى فضل البدء بالمصالحة. فقد أتاه يزوره في المستشفى وكان اللقاء بينهما الذي حضرته مؤثراً إلى أبعد حد، وإن أنس، لن أنسى منظر طه حسين الضرير وهو يدخل حجرة المستشفى يقوده سكرتيره، فريد شحاتة من ذراعه، وإذ يسمع أبي - وهو معصوب العينين - صوته، يمد يده في لهفة في اتجاه الصوت، فأمسك أنا بيد والدي، ويمسك فريد شحاتة بيد طه حسين، حتى تلتقي اليدان ويتصافحان.
وعادت الألفة والصداقة بينهما بعد ذلك إلى مجراهما القديم، وأكثرا من التزاور واللقاء خلال السنوات الست المتبقية من حياة أبي، ولا يزال لدينا فيلم سينمائي صوّرته للرجلين في شرفة منزلنا في منطقة سيدي بشر في الاسكندرية، حين جاء طه حسين يزور أبي بعد سماعه بخبر إصابته بشلل نصفي، فلما مات والدي في آيار مايو العام 1954، كتب طه حسين في رثائه يقول:
"... كانت حياته كلها مغالبة، ولم تستقم له الأمور على ما أحب في يوم من الأيام مُذ كان صبياً، كان يريد أن يغير الدنيا من حوله، وليس تغيير الدنيا ميسراً للناس، ولكنه كان يريد أن يحاول من ذلك ما يستطيع، فيستقيم له التغيير في بيئته الخاصة، وفي بيئته الجامعية بعض الشيء ويستعصى عليه في بيئات كثيرة كل الاستعصاء، فيسعد قليلاً، ويشقى كثيراً".
زرته بعد ذلك في بيته مرتين: الأولى يوم 11 نيسان ابريل العام 1958 مع زوج أختي الدكتور عبدالعزيز عتيق، كان جالساً وحده في مكتبته المواجهة مباشرة للباب الخارجي، وعلى الحائط خلفه صورة كبيرة لزوجته في شبابها. وقد بدا لنا بشعره الأشيب المهيب، وملابسه الأنيقة، محتفظاً بصحته رغم اصفرار وجهه بعض الشيء.
انحنى سكرتيره فريد شحاتة على أذنه يخبره باسمينا، فرحب بنا وطلب منا الجلوس قبالته، بينما انزوى فريد في ركن من الغرفة لا يشترك بكلمة في الحديث، وعلى وجهه علائم الضجر يحاول أن يخفيها، ناظراً الى ساعته بين الحين والحين. وقد ظل هكذا حتى نهاية الزيارة التي استغرقت نحو نصف الساعة، لا يهب من مقعده إلا لإشعال سيجارة رب المنزل، أو لتقديم الدواء والحلبة له.
كان الدكتور عتيق ترك مع الدكتور طه منذ سنة مسودة ديوان شعره حتى يكتب مقدمة له، فلم يفعل. وإذ ظن طه حسين أن الغرض الحقيقي من الزيارة هو الاستفسار عن المقدمة، فقد اسرع فور جلوسنا يقول إنه يقرأ الديوان للمرة الثالثة، وأنه يخشى إن هو كتب المقدمة أن يفرغ من الديوان إلى الأبد، وهو أمر لا يحبه لإعجابه الشديد به! وكتب طه حسين في ما بعد هذه المقدمة من صفحتين تشهدان بأنه لم يقرأ من الديوان بيتاً واحداً، كتب يقول: "وأنت تطوف في هذه الحديقة فترى فيها ما شاء الله أن ترى من شجر باسق في السماء، وزهر نضير يملأ النفس بهجة ورضى، وأشهد أني قد قرأت الديوان مرات فلم أشعر أني قد قرأت شيئاً كنت قد قرأته من قبل. وما أشك في أني سأقرؤه إن شاء الله وأقرؤه واستمتع بقراءاته كلها، كما استمتعت بقراءته من قبل".
أخبره عتيق أنه في سبيل كتابة رواية عن قرية مصرية إبان الحرب العالمية الأولى. وإذ بدأ يسرد فكرة روايته بدا على وجه طه حسين، بل وجسمه كله، التململ والضيق غير أنه تململ يحاول قمعه عكس التململ الذي كان أبي يبديه في أواخر أيامه حين يضطر الى الاستماع إلى حديث لا يثير اهتمامه، قال عندما فرغ عتيق من حديثه:
- عظيم... روايات الأدب الروسي مليئة بمثل هذه الأفكار.
قال عتيق: أكتبها لأبرهن على أن سعد زغلول لم يكن هو الذي تسبب في إشعال ثورة 1919 كما تذكر كتب التاريخ، وإنما تلقى الثمرة ناضجة، أنضجها الشعب ثم نُسبت الى سعد.
قال طه حسين: هذا حق، وعادة ما تنسب الأحداث المهمة الى أشخاص في حين تكون الظروف هي التي حتمت وقوعها، كانت ثورة 1919 أهم حدث في تاريخ مصر الحديث، ويكفيها أنها اطلقت الفكر والأقلام من عقالها، وحررت مشاعر الأمة وأمانيها.
سألته عن السبب في أن ثورة 1952 لم تطلق الفكر والأقلام على نحو ما فعلته ثورة 1919، أجاب بقوله:
- السبب هو فشل الثانية ونجاح الأولى، إننا منذ عام 1928، منذ عهد محمد محمود واسماعيل صدقي، نعيش في ظل أحكام عرفية لم تنقطع، ناضلنا طويلاً، نحن الرعيل الأول من الكتاب المصريين المحدثين، في سبيل حرية التعبير عن الرأي، ومع ذلك فإن بعض الأدباء الشبان اليوم يتهمون العقاد وهيكل وطه حسين ساخرين بأننا أنغمسنا في حقبة الثلاثينات في موجة من التدين والدروشة، إذ يرون العقاد عاكفاً على كتابة العبقريات، وهيكل على كتابة حياة محمد وكبار الصحابة، وأنا على كتابة "على هامش السيرة"، غير أننا إنما كنا نكتب كتب سير النبي والصحابة، لنعبر فيها عن آرائنا المرفوضة من السلطات في الديموقراطية والنظم الاجتماعية السائدة، كذلك تلاحظ أنني عبرت عن آرائي في بعض كتبي على لسان حيوانات، وعندما نطقت بها صراحة في كتاب "المعذبون في الأرض" صادرته الحكومة ولم استطع نشره إلا في بيروت. تماماً كما في حالة الأدباء الروس بعد الثورة البلشفية حين اتجهوا بأقلامهم لكتابة الروايات التاريخية تهرباً من سطوة الرقباء، لقد تعرضنا لكثير من صنوف الاضطهاد والكبت. وقد حدث أن كتبت يوماً مقالاً في صحيفة "البلاغ"، من دون توقيع فقدمت مع عدد من المحررين الى النيابة للتحقيق، كنت أنوي أن اعترف بأني صاحب المقال، غير أن صديقي المرحوم عبدالعزيز باشا فهمي نصحني بأن أرد على كل سؤال يوجه إليّ أثناء التحقيق بعبارة "لا أجيب". وعندما سألني وكيل النيابة: "أنت كاتب المقال الفلاني؟"، قلت "لا أجيب". قال: "أهذه هي شجاعة الكاتب الأدبية؟"، قلت: "لا أجيب". وظللت أكرر العبارة حتى صرفني في غيظ، وكان أن قدم الآخرون الى المحاكمة بينما حضرتها أنا متفرجاً! المضحك في الأمر أنه حين شرعت النيابة تتلو في المحكمة مقتطفات من المقالات المعادية للحكومة مما نشرته "البلاغ"، صاح رجل بجواري يقول في غضب: "أما ولاد الكلب دول بيكتبوا كويس قوي"! غير أنهم ما بدأوا يتلون فقرات من مقالي أنا ولتغفروا لي قلة تواضعي ضجت قاعة المحكمة بالتصفيق، مما اضطر القاضي الى رفع الجلسة.
وذكره عتيق بمقالاته المعادية للحكومة والمسماة بالصَّبْريّات، وبدأ يتلو فقرات منها من الذاكرة، فاستمع إليه الدكتور طه في سرور عظيم، وقهقه طويلاً بعد فراغ عتيق من التلاوة، ثم قال: "نعم، لكننا إن كنا قد عبرنا أحياناً عن بعض آرائنا، فكم هي عديدة تلك التي لم نستطع الافصاح عنها".
ثم انتقل الى سؤالي عن وظيفتي، مبدياً رضاءه عن التحاقي بالسلك الديبلوماسي، وعندما ذكر له عتيق أنني أعد نفسي إعداداً جاداً للاشتغال بالأدب، وأنني اتقن اللغة الإنكليزية، إتقاناً تاماً، قال طه: "ولمَ لمْ تخبرني بذلك من قبل حتى أكلفه بترجمة إحدى مسرحيات شكسبير لدار المعارف؟ على كل حال فسيصلك بعد أسبوعين خطاب من الجامعة العربية، وآخر من المجلس الأعلى للفنون والآداب يكلفانك بترجمة بعض الآثار الأدبية، ثم تحدث عن ديبلوماسيين فرنسيين أصبحوا من كبار الأدباء، مثل غوبينو وكلوديل وجيرودو، ثم عن عاطفة كلوديل الدينية ومراسلاته مع أندريه جيد، وعن إعجابه العميق بجيد وتفضيله له على سائر كتاب فرنسا في القرن العشرين.
أما لقائي الاخير معه فكان في 15 آذار مارس العام 1969، أي قبل وفاته بأربع سنوات، كان وقتها شيخاً مهدما في الثمانين، يبدو في مقعده كالجثة المحنطة، وقد دثر نصفه الاسفل ببطانية من الصوف، وألقى رأسه الى الخلف كمن يستسلم للذبح. كل شيء قد تغير فسكرتيره القديم فريد شحاتة كان قد هجره بعد خلاف مرير مع زوجة طه حسين، وحل محله صديقي محمد شفيق الذي رتب هذه المقابلة لي ولصديقنا ممدوح ابن الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخ الازهر الاسبق، ولم يصبر محمد شفيق نفسه على هذه الوظيفة إلا لبضعة أيام تلت زيارتنا إذا ارتأى فيها مهانة له، وان المطلوب منه لا يتعدى ملاحظة مواعيد تقديم هذا الدواء أو ذاك إلى طه حسين، واشعال السيجارة له، واستقبال الضيوف وتقديم السجائر اليهم، واصطحابهم الى الباب عند انتهاء الزيارة، كان طه حسين قد توقف نهائياً وقتها عن التأليف والإملاء، غير أنه ظل في حاجة إلي من يقرأ عليه الكتب والصحف حتى ينام على صوت القارئ، فإن توقف عن القراءة هب طه حسين من نومه ليطلب منه استئنافها ثم يعود الى النوم.
وجاءنا فور مصافحتنا إياه واحتلالنا لمقاعدنا صوت الزوجة تصيح وتلعن وتسب خارج الحجرة، ثم إذا بها تفتح الباب في عنف لتكمل صياحها، ثم إذا هي تتوقف وتسكن إذ ترى ضيوفاً مع زوجها الذي بدرت من جسمه رعدة عند دخولها غير انه تمالك نفسه سريعاً وخاطبها مبتسماً بقوله: احذري مَنْ هذان الشابان؟
تأملت وجهينا لحظة، فلما عجزت عن الاجابة قال:
- هذا ابن الاستاذ المرحوم أحمد امين.
فصافحتني من دون حماس كبير.
- وهذا ابن المرحوم الشيخ مصطفى عبدالرازق.
فإذا بالمرأة تصرخ وتهلل، وتحتضن ممدوحاً وتقبل وجنتيه، وقد تدفقت منها بالفرنسية تعابير الترحيب الحار، وقد قفز الى ذهني وقتها ما كان أبي حدثني به يومآً من ان طه حسين كان خلال السنوات الاخيرة من حياة مصطفى عبدالرازق بدأ يغار منه على زوجته، ثم قطع علاقته فلم يتزاورا بعد ذلك قط.
ثم خرجت الزوجة بعد أن همست في أذن زوجها بحديث غاضب، فهز رأسه وعلى شفتيه نصف ابتسامة من دون أن يجيبها فلما عاد الهدوء سألني عن نشاطي في الآونة الراهنة فأجبته بأني اكتب مسرحية عن الصراع بين عليّ ومعاوية.
قال: من أية زاوية؟
قلت: من زاوية مثالية عليّ التي اعجزته عن فهم احتياجات العصر ورجاله، وادراك معاوية لهذه الاحتياجات التي كانت تغيرت عما كانت عليه وقت النبى.
- صلى الله عليه وسلم، امتعاطف انت إذن مع معاوية؟
- هو المثل الاعلى عندي.
قال ساخرا: يابختك! ....
ونهض محمد شفيق يقدم له علبة سجائره، فنحاها جانباً، ومال برأسه الى الخلف فاغرا فاه وراح في سبات عميق.
وكانت هذه الجملة العدائية آخر ما سمعته منه، ولم نلتق بعد ذلك إلا يوم 28 تشرين الاول اكتوبر 1973، حين سرت في جنازته إبكيه.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.