دلف الى بيته الطيني المجصص بالرخام والنوره المكحل بالنيلة حتى بدا وكأن لونه يميل للزرقة ، كانت بيوت الطايف تدهن هكذا بالرخام الأبيض خاصة في عيد الفطر حيث تعلن حالة الطوارئ في أغلب البيوت فترخم وتغسل وتنفض مفارشها التي تشبعت بالغبار خلال العام وتنجد مساندها وتجدد كرويتاتها الخشبية التي كانت بمثابة الكنب ، كان يحمل في يده زنبيلا أسودا صنع من كفرات السيارات يحمل فيه عدة النجارة التي تعلمها على يد والده منذ رهافة أسنانه ، كانت هذه المهنة تدر عليه دخلا لا بأس به مكنه من شراء هذا البيت الصغير في حي البخارية في الطائف ، ماتت زوجته التي كانت زوجته وحبيبته ورفيقة أحلامه وآلامه منذ مدة ليست بالقصيره ، لم يستطع أن يجد من تأخذ مكانها ، ليس في البيت ولكن في قلبه أولا ، كان حاد الطباع ، يثور لأتفه الأسباب ولذلك كثيرا ما واجه المشاكل مع الزبائن ، لم يتعامل مع طباعه بلطف الا زوجته ، صورة زوجته معلقة على أكثر من حائط ، إحتفظ بكل أشيائها بعد موتها كما هي ، شنطتها الحديد التي تتوسط غطائها من الداخل مرآة صغيرة كانت تستعملها وقت الزينة رغم صغرها ، مكحلتها المذهبة ومشطها الخشبي الذي تكسرت بعض أسنانه وعقدها اللولي ومحرمتها لا زالت تنام في تلك الشنطة منذ موتها ، يتفقدها كل يوم وكأنه يطمئن على وجودها ، حتى غنمتها البيضاء الأثيرة عندها لا زالت تربض عند الباب تجتر برسيما أكلته عند غروب الشمس ، كم هو مؤلم فراق من تحب ، أصبح البيت سجنا كئيبا ، لم يعد يهتم بنفسه وعمله ، يجلس الساعات يحتسي الشاي الذي ربما أصبح أبرد من ماء زيره الفخاري المشطوب ، ويدخن سجائر البستاني اللف بشراهه ، لم يعد يهتم حتى بغنيماته ، ولا بأكلها ، أصبحت تهيم في الشوارع بحثا عن أكل ، ذات نهار وعندما غابت الشمس ، لم تكن هناك أنوار تتسلل من كبريتة شباكه كالعاده ، ظن الجيران أنه في عمله كالعادة عند أحد الزبائن ، ولكنه لم يخرج كعادته كل صباح لتعليف أغنامه ، طرق أحدهم بابه للإطمئنان عليه ، لم يفتح ، عاود الطرق ، حضر جار آخر وآخر ، توالى الطرق ولكن ما من مجيب ، عندما فتحوا الباب عنوه وجدوه منكبا على تلك الشنطة وهو ممسك بصورة زوجته وقد فارق الحياه .....