من يشاهد فيلم «بونجور بيروت» لجورج صليبي و«عصفوري» لفؤاد علوان يجد أن الفيلمين يستعرضان نفس الفكرة؛ المسخ العمراني الوحشي الذي زحف على المدن واحتل المدى ككابوس من خلال الأيدي العقارية الاستثمارية العملاقة التي شوهت الطراز المعماري القديم وحولته إلى مربعات زجاجية مرتفعة تتكدس بكثرة وتثير الاشمئزاز وتحجب الزرقة والبياض. «علوان» يطرح الفكرة من خلال قصة شاب عضّه الفقر وهدّته البطالة وانسدّت الآفاق في وجهه فرحل عن الوطن كي ينحت في الصخر.. قامر بحياته من أجل الخبز وأصبح يتيماً من أيتام الوطن.. حقيبته منزله.. ثم يعود مرة أخرى بعد غربة طويلة مُرّة ليدخل إلى المبنى الذي كان يقيم فيه مغتبطاً بفرح كطفل عاد يبحث عن عالم الحنين الذي تركه.. فكر أن يعيد للعمارة التي أصبحت كحسناء زال شبابها رونقها بإعادة ترميمها ليجد نفسه في دوامة رغبة السكان في إزالة كامل المبنى وهدم العمارة البسيطة الارتفاع وتحويلها عبر مستثمر عقاري إلى ناطحة سحاب. ثم تمتلئ الشاشة في ختام الفيلم بصورة مؤثرة بأراضٍ غير مستوية ومرتفعات ومنخفضات وأكداس من الأتربة كأنك في حي أصابته هزة أرضية.. رمل كثير وهواء حزين ينثر رثاءه.. قصة لا تختلف عمّا حدث لي ولكم وللكثيرين ممن كانوا يعيشون في بيوت كانت تحمل دفئاً بين جدرانها حيث تهدهد الأمهات أطفالهن في المهد.. مساكن حميمة قديمة عتيقة متآكلة تحمل تفاصيل الحياة المكاوية والجداوية بوجهها الأسمر الذي يشبه رغيف البر.. مساكن معجونة بانشراح مشبع واضحة شرفاتها كسماء صيف وحميمية بكل ما يضج بصدور ساكنيها من أحلام بسيطة حالمة تطل نوافذها المشرعة على شوارع تتسلل منها شرائح من ألحان حجازية تجعلك تفتح تلك النوافذ لآخرها تشرح الصدور للهواء المالح تتنفسه مرات كثيرة متتالية والآيات المنقوشة بالذهب ترتفع في المداخل كشموس صغيرة تتساقط من السماء مسكاً وعنبراً.. تستقبلك ب«هذا من فضل ربي» تشرع المداخل أذرعتها لتحتضنك.. هناك من اعتاد أن يفتح نافذة غرفته الصغيرة المطلة على البحر والرمل ويستمتع بمرور نسمات الهواء البارد على قلبه ويشاهد البحر يرتدي معطفه الأزرق عند الفجر.. كانت البيوت تغازل البحر فيرتفع الموج قليلاً.. بيوت كانت تضج ببوح التراب والماء تنتصب في بركة القلب تختصر أوجاع الأيام بيوتاً.. كان لكل بيت منها طعم مختلف وقيمة خاصة وأصالة. أتذكر ملامح تلك البيوت ببطء مخدر.. أتابع الزخارف الخشبية النافرة في الرواشين ما زالت تذهلني بجمالها.. شقوق الجدران والشمس تمتص المساحات والألوان تمتزج بالخشب والنورة والأسمنت مثل سلسلة ذهبية عطرة والفرح ينعقد حول رقاب الأسطح والدفء يعمر الوجوه. كان الزمان خرافة أسطورية وكانت البيوت بيضاء وديعة تنتصب كخيام الفجر.. ثم بدأت أقسى مراحل الحياة العمرانية حيث هُشم التاريخ وهدمت المباني القديمة بشراسة وخرج علينا الإقطاعيون بمعمار مسخ أعمى لا دم فيه ولا روح قاموا بتفريغ العمارة العربية من هويتها بعمائر زجاجية عملاقة خاوية من أي معالم جمالية.. أعمال بعيدة عن الحِسّ العام والفكر المحافظ الأصيل.. مبانٍ عملاقة ضخمة كفم جائع يمضغ لحظات الحياة.. وتضاعفت تلك الأبراج كأطفال الأرنب لتصبح عشوائيات الأغنياء، انتشرت كالجبال تزينها زخارف صارخة لا تعرف مصدرها.. تشويه بصري لأبنية كأنها قبور مفتوحة على السماء تتطاول دون اهتمام لمعايير السلامة وكيفية إنقاذ السكان في حالة الكوارث لا سمح الله. المألوف اختفى وحل محله الزجاج المكحل والحديد المشغول والألمنيوم الذي تعرضه الشرفات المفتوحة التي أصبحت تستثيرنا ولا نقوى على مقاومتها. وتحولت هذه الأبراج الزجاجية الجاثمة على العيون لمصدر ثروة هائلة للبعض وبلاء عظيم يحجب البحر عن الكل.. أين البحر؟!.. كان هناك بحر.. [email protected]