التاريخ يصنعه الإنسان، وتحتضنه المدينة، يصنعه الإنسان بشكلين: الأول: القيام بأدواره، والمشاركة فيها، والثاني: حكايته والتذكير به، وكلّ تاريخ كان، ولم يصلنا خبر عنه أو اشتبهت علينا أنباؤه، فمردّ ذلك إلى فقدان الإنسان الحاكي له، والحريص عليه، فالتاريخ أسسه البيّنة ثلاثة: صانع، وحاكٍ، ومحتضن. وثمّ أساس رابع، يغفل الناس عن دوره، وربّما تهاونوا في أمره، وهو الداعم والمحرّض من خليفة أو ملك أو أمير أو وجيه، وفي تاريخنا قصص لمثل هؤلاء، فمما حُكي من الماضي البعيد قصة ابن عساكر التي دوّنها في مقدمة تاريخه لمدينة دمشق؛ إذ ذكر أنّ العجز مع الكِبر كاد أن يُغريه بترك إكمال كتابه، والصدّ عنه، لولا ما بلغه من تشوّق الملك محمود بن زنكي إلى استنجاز الكتاب واستتمامه. وبين يديّ قصة أخرى، يُستشهد بها على هذا الأساس، وهي قصة المهندس سعد المعجل مع كتاب (المعالم التراثية والتاريخية في مدينة الرياض) إذ قام برعايته وإخراج طبعته الأولى، فمتى أُسدي الشكر لمؤلفيه، وذُكروا به، فلا يُنسى فضله، ولا يُغيّب دوره، وليت أمثاله في مدن بلادنا كثير؛ حتى يكون لكل معالم مدينة تاريخ، به تُعرف، فيكون تاريخ المكان وشواهده القديمة معروفاً؛ كما كان تاريخ الإنسان مُعتنى به مُلْتفتاً إليه. الحنين للأوطان والشوق إليها متفق عليه، حُكي عن الأولين ونُمي للآخرِين، ومما أُثر عن بعض السلف الأول، وساقه الجاحظ في رسائله عنه، قولُ ابن الزبير: "ليس الناسُ بشيء من أقسامهم أقنعَ منهم بأوطانهم" ومن الحنين يُعرف الوفاء، وتُكشف عن المحبة، ومَن سعى لبناء ذاكرة المكان، وتدوين ما فيه كان، فهو وفيّ له، حانٌّ إليه، فمن مظاهر الوفاء والحنين أن يتذكر المرء ما كان، ويحتفظ منه بما يُذكّره به، وذلك هو الذي كان في هذا الكتاب، وهكذا هي كتب البلدان، فما حدا ابن طيفور إلى تأليف كتابه (بغداد) ولا دعا ابن عساكر إلى كتابه عن (دمشق) إلا ما قرّ في نفسيهما من وفاء وحنين، عزّ عليهما بعدُ أن يُجهل أمر المكان ويُنسى ما امتلأ يوما من الأيام به. في التاريخ الإسلامي والعربي مدنٌ بقي ذكرها واستعاد الناس أخبار أهلها، وما زلنا حتى الساعة نُشير إليها، وإلى ما كان فيها، بأصابع الثناء، فكانت دمشق وكان للمسلمين والعرب فيها حديثٌ أثير، وكانت بغداد عاصمة الرجال والمذاهب والعلوم والفنون، ولم تبعد عنهما القاهرة محتضنة الحضارة وبانية العلم، وإنّي لأرجو لعاصمتنا الرياض أن تُذكر في التاريخ الآتي إذا ذُكرت هذه المدن ويُعدّ فضلها إذا عُدّ فضل أولئك، وهذه الكتب التي تُؤلف الآن في المدن تاريخِها ومعالمِها ستكون مادة الحديث في المستقبل عنها حين تضحي منارة يُطلب تاريخها ويُتعرّف على ما فيها. كثير هم الذين جاؤوا إلى الرياض مثلي صغاراً، لم يسمعوا بتاريخها القديم، ولم يعرفوا تاريخ معالمها، ولم يقفوا على علل أسماء أحيائها وشوارعها، وفي هذا الكتاب مادة حسنة، تُنير بعض الجوانب المجهولة، وتكشف عنها، وهي مادة، وإن اعتمدت على باحثين أكْفاء، إلا أنّها حسب قول المهندس في مقدمته عنها:"لا يسعني إلا أن أستنهض الهمم لدى الباحثين على دراسة هذا الكتاب، وإكمال ما جاء فيه من خلال النقد والتدقيق والمراجعة والتمحيص" وتلك هي السنة في كل مؤلف ومكتوب منذ بدأ الإنسان الكتابة، يُكمل اللاحق ما بدأه المتقدم ويسد نقصه. وما أنا بحريص في هذا المقال على النقد، وربّما لم يكن لمثلي أن يخوض فيه، إنما مُهِمّتي التي نذرتُ نفسي لها أن أسوق بعض ما راق لي ووجدت فيه تشجيعا لغيري حتى يُطالع الكتاب وينتفع بما فيه. وأولُ ما أرى سوقه هو الأسماء التي سُميت بها الرياض قديما، كان اسمها في العصور الأولى جوّا والعروضَ، ثم سُميت بعد ذلك وقبل الإسلام أيضا باليَمامة، وهو اسم اختُلف في سببه، ومما قيل فيه قول الزمخشري:"بلدة سُمّيت بالزرقاء، وكان اسمها اليمامة" وهو قول انتقده المؤلفون، ثم سُمّيت بعد هجرة أهلها إثر هجمة الملك الحميري عليهم ب(حجْرٍ) لأن عُبيدا الحنفي حَجَر عليها، وظلت على هذا الاسم حتى القرن الحادي عشر الهجري الذي ظهر فيه اسم (الرياض) وأصبح منذ 1240ه اسم عاصمة بلادنا. وثانيه خبر اسم حي (خنشليلة) الذي يُسمّى اليوم (المنصورة) فأصله أنّ امرأة تُدعى (جليلة) أوقفت لقُصّاد بيت الله فندقا باسمها (فندق جليلة) ثم غلب عليه لفظ الأَغراب من أهل السند وفارس، الذي يُسمّون الفندق بالخان، فصار (خان جليلة) ثم عَدَتْ عليه الغِيرُ فأصبح (خنْشليلة)، وإنّي لأحسب أن معرفة عموم طلاب المدارس بهذه المعلومات وأمثالها أنفع لهم، وأعود على وطنهم، من معرفتهم بنهر المسيسبي والأمازون وجبال الألب ومحاصيل الزراعة في دول أوروبا؛ فمعرفتنا ببلادنا وما فيها مقدم على غيرها، فالأقربون أولى بمعرفتنا وخُبْرنا! نقلا عن الرياض