من شِعرٍ منسوبٍ إلى (القاضي علي بن محمَّد العنسي)، غَنَّى كثيرون على لحنٍ من التراث الصنعاني: وا مُغَرِّدْ بِواديْ الدُّرِّ مِنْ فوق الاْغْصانْ وا مُهَيِّجْ صَباباتي بِتَرْجِيْع الاْلْحانْ ما جَرَى لَكْ تُهَيِّجْ شَوق قلبي والاْشْجانْ لا انتَ عاشِقْ ولا مِثلي مُفارِقْ للاْوْطانْ بُلْبُلَ الواديَ الأَخْضَرْ تَعالَ اْيْنَ دَمعكْ؟ تَدَّعيْ لَوْعَةَ العاشِقْ وما العِشْق طَبعَكْ فاستَرِحْ واشغل البانَةْ بِخَفْضَكْ ورَفْعَكْ واتْرُكِ الحُبِّ لاْهْلِ الحُبِّ يا بُلْبُلَ البانْ حِبَّتي بَعْدَكُمْ واللهْ جَفاني هُجُوْعِي وجَرَحْ مُقْلَتِيْ يا اْحْباب جَاري دُمُوْعِي آهِ وا حسرتي منكُمْ ألا يا وُلُوْعِي كُلِّ ذا مِنْ جَفاكُمْ لَيْتْ يا لَيْتْ لا كانْ يا أَحِبَّةْ رُبَى صَنعا سَقَى اللهُ صَنعا حَيِّ ذاك الرُّبَى لا زالَ لِلْغِيْدِ مَرْعَى لَوْ يَقَعْ لِيْ إليه اسْعَى على الرَّاسْ لاْسْعَى يا برُوْحِي (نَجِيْ؟) رُوْحِي بَلابِلْ وأشجانْ لَيتَ شِعريْ متَى شَا اْلْقِيْ عَصاةَ المُسافِرْ وايِّ حِيْنْ شَا يَطِبْ ليْ عَيْش قدْ كان نافِرْ وايِّ حِيْنْ شَا تخَطَّرْ بَيْنَ تلكَ المَناظِرْ هُوْ قَريبْ ذا على اللهْ إِنْ يَقُلْ لَهْ يَكُنْ كانْ غناه مغنُّون من اليَمَن وغير اليَمَن. وأجمل من غنَّاه مطرب اليَمَن الكبير (العبسي، أيُّوب طارش). وهو فنّان نادر، بفخامة صوته وعذوبته معًا، ومقدار الشجن والطرب فيه. فما وزن هذا النص؟ إنه من مجزوء البحر الخفيف، المخبون المقطوع العَروض والضَّرب، ويُسمَّى: (المكبول)، بحيث تصبح (مستفعلن): (متفعلْ= فعولن). ويُسمِّي العَروضيُّون العِلَّة هاهنا (قَصْرًا)، لا (قَطْعًا)؛ لأنهم يفترضون أن التفعيلة في هذا البحر تتكوَّن مقاطعها هكذا: (مستفعِ لن). وهو افتراضٌ تحكُّمي لا يدعمه منطق، ويجعلنا أمام تفعيلةٍ وهميَّة مختلَقة، لا مبرِّر لها. بيد أن البيت من مجزوء الخفيف يصبح في نصّ العنسي شطرًا من بيت. جاعلًا توزيع القوافي على النمط الموشَّحي، أو الحُمَيْني. وقد قيل إن أوَّل من أضاف هذا الوزن الشاعر العباسي (أبو العتاهية)، وحين نُبِّه إليه وأنه قد خرج به عن مألوف العَروض، قال: "أنا أكبر من العَروض!" وعليه أبياته: عُتْبُ، ما لِلخَيالِ ** خَبِّريني ومالِي؟ على أن للغناء عبثه أحيانًا بعَروض الشِّعر. فتقطيع الأبيات هكذا: "وا مغردْ/ بواديْ الدْ/ دُرِّ من فو/ ق الاْغْصانْ": (فاعلاتن/ متفعلْ/ فاعلاتن/ متفعلْ (+نْ)). بزيادة حرف ساكن، وهذه الزيادة لا نذكر لها شاهدًا من الشِّعر الفصيح، حتى لدى أبي العتاهية. لكن المغنِّين يكسِّرون بعض الأبيات: فنسمع بعضهم، كالفنّان (علي الآنسي)، يقول: "تدَّعي لوعة العشَّاق وما العشق طبعكْ". وبعضهم يقول: "وا مهيّج صبابتي بترجيع الالحانْ". والبيت: "آهِ وا حسرتي منكمْ وآه يا ولوعي"، لا يستقيم وزنًا، ولا بُدَّ أنه، مثلًا: "آهِ وا حسرتي منكمْ ألا يا ولوعي". ولن تفهم ما يقوله المغنُّون في البيت الثامن، ولا حتى المنشدون! فالكلمة الثالثة من الشطر الثاني تسمعها تارة "نجح" وتارة "نقح"، وفي النهاية بلا معنى ظاهر! ويبدو أنهم لم يفهموه، فغنَّوه هكذا، وإنْ من غير معنى! ولعلَّه: "يا بروحي نَجِيْ روحي بلابل وأشجانْ". فالشاعر يفدي بروحه "نَجِيَّ" روحه، وإنْ كان نجيَّها بالبلابل وبالأشجان. وأمّا (محمَّد عبده)، فقد غنَّى الأبيات قديمًا غناءً جميلًا، صوتًا، عجيبًا، لحنًا ونصًّا، فضلًا عن تكسيره الوزن! (ولمن شاء العودة إلى موقع "اليوتيوب" لسماع المواد المشار إليها: http://www.youtube.com/watch?v=PtJu4AmOyQw ) مهما يكن من أمر، فإن للغناء عالمه الموسيقي، وللشِّعر عالمه اللغوي الموسيقي. غير أن نماذج المقارنة بين الضربَين تشير إلى أن أُذن الشاعر أرهف حِسًّا غالبًا من أُذن الموسيقي، وأن "نوتة" الوزن العَروضي هي أدقّ وأكثر صرامةً في قوانينها من نظيرتها لدى المغنِّي أو الموسيقي. أ.د/ عبداللهبنأحمدالفَيْفي