إحدى القضايا البدهية فيما يخص دعم القضية الفلسطينية ومناصرتها ومنذ بدايات الأزمة، قضية الموقف الذي تتخذه المملكة العربية السعودية، غير أن الذكرى في كل الأحوال من جهة تنفع المؤمنين، ومن ناحية أخرى تستدعي استداد أفواة المتقولين زوراً، أولئك الذين لم يقفوا يوماً إلى جانب الشعب الفلسطيني ولا مالوا إلى مؤازرة عدالة الحقوق التاريخية في الأرض من منطلق تضامن إنساني وإيماني خالصين، بل أثبتت التجربة التاريخية أنهم لم يبلغوا يوماً حداً يتجاوز المواقف البراغماتية النرجسية السيكوباتية، في خداع ديماغوجي يستهدف الجماهير العربية والإسلامية من المحيط إلى الخليج. الذين قدر لهم متابعة أعمال القمة العربية الأخيرة في مدينة الظهران السعودية في أبريل (نيسان) الماضي، خلصوا إلى أن القضية الفلسطينية هي قضية المملكة الأولى وستظل كذلك حتى حصول الشعب الفلسطيني على جميع حقوقه المشروعة وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية. الحديث هنا لرأس المملكة الملك سلمان، الذي أكد وفي وضوح الشمس في ضحاها أن قرار إدارة الرئيس ترمب الأخير مرفوض، وأن القدسالشرقية هي جزء لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية. حين أطلق خادم الحرمين الشريفين على القمة الفائتة لقب «قمة القدس» لم يكن يزايد على أحداً، وحاشا لأصحاب المواقف التاريخية سلوك طريق المزايدات التي يجيدها أصحاب الافتراءات من المفترين، أو ينسج خيوطها ويرسم خطوطها العنكبوتية، تضليل المضللين. في يوليو (تموز) 2017 وحين سدت طرق المقدسيين في الوصول إلى المسجد الأقصى، كان الملك سلمان يفعّل الثقل الروحي والسياسي للمملكة لدى قادة العالم وزعمائه، وفي المقدمة منهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ليعاد فتح الأبواب المغلقة، عطفاً على التأكيد ومن جديد على أهمية تحقيق السلام العادل. ولأن الإدارة الأميركية الحالية قد عمدت بشكل أو آخر إلى تفعيل مساعداتها الاقتصادية للمهانين والمجروحين في الضفة الغربية وقطاع غزة بنوع خاص، ولكن بشكل عكسي، وبطريقة تمتهن كرامة الإنسان الفلسطيني، كان الملك سلمان يعلن عن تبرعه بمائتي مليون دولار، منها مائة وخمسون مليوناً لبرنامج دعم الأوقاف الإسلامية في القدس، انطلاقاً من فهم عميق وواع لمحاولات تهويد «زهرة المدئن»، الجارية على قدم وساق، وخمسين مليون دولار لوكالة الأممالمتحدة لإغانة وتشغيل اللاجئين الفلسطنيين في الشرق الأدني «الأنروا». التبرع السعودي الأخير في حقيقة الحال ليس إلا فيضاً من غيض، ذلك أن إجمالي المساعدات التي قدمتها المملكة للشعب الفلسطيني منذ العام 2000 وحتى الساعة تجاوز الستة مليارات دولار، ويضاف إليه ما قدمته اللجنة الوطنية لإغاثة الشعب الفلسطيني والعهدة هنا على الراوي، الدكتور عبد الله الربيعة المستشار في الديوان الملكي، والمشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية. ولعل علامة الاستفهام التي تطرح ذاتها بين يدي الأرقام المتقدمة كم يبلغ مقدار ما قدمته المملكة في هذا الإطار منذ ثلاثينات القرن العشرين وحتى الساعة؟ سخّرت المملكة مذ كانت ومذ بدأت إرهاصات احتلال الأرض المقدسة في فلسطين كل جهودها رفضاً لتكريس واقع مغاير لسيادة الفلسطينيين على أراضيهم. حين حل العام 1926 كانت الامبراطورية البريطانية تجهد في أن تكرس وجودها على الأراضي الفلسطينية، ممهدة الطريق لقيام الدولة اليهودية عن طريق وعد بلفور، وساعتها كان الرفض الواضح من الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود للمساومات البريطانية التي جرت معه أثناء المفاوضات التي شهدتها اجتماعات وادي العقيق، ويومها صاح صيحته الشهيرة... «الحقوق الثابتة للأمة لا يجوز التنازل عنها». توالت المواقف السعودية الحازمة والجازمة معاً، ليرسل الملك عبد العزيز ولي عهده الأمير سعود إلى الأراضى الفلسطينية عام 1935 ليقف على أحوال الأزمة التي باتت تتخلق في رحم الاستعمار البريطاني، وليشهد العالمان العربي والإسلامي على التضامن السعودي مع أنبل قضية سيقدر لها أن تكون جرحاً غائراً في جسد الأمة في قادم الأيام. قبل قرار التقسيم المشؤوم بعقد من الزمان، كان الملك المؤسس يرفض ما ستأتي به الشرعية الأممية المغشوشة، ويومها لم تكن ينابيع الغمر العظيم قد انفجرت بالنفط في أرض المملكة، ومع ذلك وجه الملك الأب ابنه الأمير فيصل الذي سيصبح علامة في طريق النضال السعودي لصالح فلسطين، بتكوين لجان شعبية لجمع التبرعات للفلسطينيين من كافة أرجاء المملكة، ليتقاسم السعوديون رغيف الخبز مع أشقاء لهم، دون فضل أو منة، بل إيماناً واحتساباً بأن المؤمنين إخوة. تجيد المملكة قراءة تغيرات الأزمنة وعلاماتها، وفي ضوء معطيات كل مرحلة تاريخية تنعطف بما تستوجبه مقتضيات العصر، فهي العام 1939 على سبيل المثال تقدم الدعم العسكري للفلسطينيين، ويقرر الملك عبد العزيز، رحمه الله، شراء الأسلحة وإرسالها إليهم رغم الظروف الاقتصادية في تلك الحقبة. وحين تدق ساعة النضال المسلح المباشر في العام 1973 يمضي الفيصل، رحمه الله، في طريق الحظر النفطي، وقبلها في 1967 كان الراحل يمارس ضغوطاته على زعيم فرنسا الأشهر الجنرال شارل ديغول، الذي أمر قبل العدوان على مصر وبقية العالم العربي بأريعة أيام بوقف السلاح المصدر لإسرائيل. على أن المملكة عينها التي تمثل خير تمثيل منحنيات السياسة الدولية في بداية الألفية الثالثة، هي التي طرحت مبادرة السلام عام 2000 والتي تبنتها قمة بيروت، وتبنتها من بعدها القمة الإسلامية في مكة عام 2000، انطلاقاً من أن أحداً لا يريد الموت والفناء، بل إن العرب والمسلمين يسعون للجهاد في طريق الحياة والنماء، بشرط إحقاق الحقوق، عبر قيام دولة فلسطينية، على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، وعاصمتها القدسالشرقية. حين بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلية عام 2002 بناء الجدار العازل أو جدار الفصل العنصري الذي بلغ طوله 402 كلم وانتهت منه عام 2006، كانت المملكة أول من وقف بالمرصاد للاعتداءات على جغرافية فلسطين التاريخية، إذ تقدمت بمذكرة احتجاج إلى محكمة العدل الدولية في لاهاى تدين الفعلة النكراء، ما دفع المحكمة إلى الحكم بعدم شرعية هذا الجدار ومطالبة إسرائيل بإزالته. العزف السيئ السمعة ومحاولات الدس بين المملكة وبين الشعب الفلسطيني، ألعاب سفلية تمجها الجماهير الأبية في الداخل الفلسطيني أولاً، وفي كافة ربوع العالمين العربي والإسلامي، فالشمس ليست في حاجة إلى برهان، والحقائق الراسخة لا تحتاج لتبيان، مهما تعاظمت أكاذيب وادعاءات وتأويلات المرجفين، فالحق أحق أن يتبع، غير أن آفة «البعض» من سكان «حارتنا الفلسطينية» النسيان.