تصريح العتيبة سفير الإمارات في الولاياتالمتحدة عن العلمانية حين قال: إن الدول المقاطعة لقطر تريد رؤية حكومات علمانية مستقرة مزدهرة وقوية بعد 10 سنوات في الشرق الأوسط. أثار زوبعة هائلة من التعليقات المنتقدة؛ إذ إن كثيرين فهموا أن العتيبة يقصد أن الدول المقاطعة لقطر - بما فيها السعودية – تزمع التحول إلى دولة علمانية، والظاهر أن كلام العتيبة كله إنما هو عن الدول العربية التي تعيش في احتراب ومشاكل كالعراق وسوريا، وكيفية خروجها من الاحتراب. ومع أن هذا هو ظاهر مراد العتيبة في حديثه إلا أن مصطلح (العلمانية) يثير حساسية هائلة لدى قطاع عريض في مجتمعنا العربي، ف (العلمانية) في المخيال الشعبي لدينا قرين للانحلال والإلحاد والفجور والبهيمية، وهذه الحساسية التي يثيرها المصطلح جعلت كثيرين من النخب المثقفة يتجنبون المصطلح، ويطرحون مصطلح (الحكومة المدنية)، أو (الحكومة الديمقراطية) خوفا من إثارة الرأي العام، ومن الطرائف في هذا أن أحد المرشحين في الانتخابات العراقية وصف برنامج حزبه في مقابلة إعلامية يفصل بين الدين والدولة، فسألته محاورته: هل معنى هذا أن حزبكم علماني؟ فغضب وأجابها بحدة: «لا، نحن نؤمن بالله». فهل العلمانية تدعو للإلحاد والفجور؟ كتب الدكتور خالد الدخيل مقالات لتفنيد هذه الرؤية، وقبله كتب كثيرون في تبيان حقيقة (العلمانية)، وهي أنها رؤية في كيفية تنظيم الدولة، وذلك بفصل الدولة عن الدين، فتكون الدولة على مسافة واحدة من جميع مواطنيها على اختلاف أديانهم وأعراقهم وطوائفهم، ف (العلمانية) ليس لها موقف عدائي من الدين، فلمواطن الدولة العلمانية حرية التدين، وحرية التعبير عن دينه كيف ما شاء في ما لا يتعدى على غيره من المواطنين، وليس لها أي مشروع أيديولوجي لفرضه على مواطنيها، وبهذا المعنى يرى بعض الإسلاميين أن (العلمانية) لا تتعارض مع الدين، كرئيس تركيا إردوغان، حيث قال: «العلمانية تعني التسامح مع كافة المعتقدات من قبل الدولة، والدولة تقف من نفس المسافة تجاه كافة الأديان والمعتقدات.. هل هذا مخالف للإسلام؟ ليس مخالفا للإسلام؟! نحن لا نعتبر العلمانية معاداة للدين أو عدم وجود الدين، والعلمانية ليست ديانة الدولة، العلمانية هي ضمان فقط حريات كافة الأديان والمعتقدات، يعني العلمانية توفر الأرضية الملائمة لممارسة كافة الأديان ممارسة شعائرها الدينية بكل حرية حتى الملحدين، ولكن اعتبار العلمانية تسليط رأي أو موقف على المتدينين فهذا غير صحيح وغير مطلوب إطلاقا». فإذا كانت العلمانية لا تعادي الدين فهل هي تتوافق مع الدين؟ الذين يُنَظِّرون للعلمانية وأنها لا تخالف الدين لا يفهمون وجهة نظر الإسلاميين في موقفهم من العلمانية، فالإسلاميون لا يرون أن العلمانية إلحاد كما هو مشتهر عنهم، بل الإسلاميون يرون أن ترك تحكيم الشريعة كفر مخرج من الملة، وبما أن انتهاج العلمانية في سياسة الدولة يؤدي لترك تحكيم الشريعة، فهي بالضرورة كفر، فالحكم على (العلمانية) بأنها كفر حكم – وفق المنطق - مركب من مقدمتين ونتيجة، فالعلمانية لا تحكم شرع الله، وترك تحكيم شرع الله كفر، إذن العلمانية كفر. وأما على القول بأن ترك تحكيم الشريعة ليس كفرا، وإنما هو معصية فإن انتهاج العلمانية وسيلة للحكم ليس بكفر، بل هو معصية، وقضية (الحاكمية) تكاد تكون عماد الفقه السياسي للحركية الإسلامية المعاصرة، إذ جعلتها الحركية الإسلامية عقيدة مفاصلة بين الإيمان والكفر، ثم جعلتها معيارا على إسلامية الدولة دون أي اعتبار آخر من وظائف الدولة التي بها تتحقق شرعيتها كالعدل، وحفظ الكرامة، وتوفير الحرية والأمن، وهو ما أسميه ب(شرعية الإنجاز) الذي هو بحق يحقق شرعيتها في نظر الشعوب كافة بعيدا عن تنظيرات الحركية الإسلامية،، وعلى فلسفة تكفير تارك تحكيم الشريعة قامت حركات التطرف والعنف في عالمنا الإسلامي. والتنظير الديني لقضية حكم ترك تحكيم الشريعة تنظير طويل متشعب، وقد سبق أن كتبت فيه مقالات، منها مقال مطول بعنوان (سيادة الأمة وتطبيق الشريعة في ضوء النقد المعرفي)، ومقال: (الحاكمية وشرعية الدولة دينيا)، ومقال: (الدولة وشرعية الإنجاز). ليس هذا المقال دعوة للعلمانية، وإنما هو تبيان بأن تكفير العلمانية والعلمانيين إنما فرع عن قضية تكفير ترك الحكم بالشريعة، ومسألة تكفير تارك الحكم بالشريعة ليست محل إجماع من العلماء كما يطرحها الحركيون. نقلا عن صحيفة مكة