إذا ذُكرت باريس عاصمة الدولة الفرنسية، ذُكرت معها الحرية، وشيوع المعرفة، والتقاء الثقافات، لهذا اكتسبت لها هوية خاصة متفردة، فهي تُنعت بأنها عاصمة النور. ومثلها لندن، عاصمة المملكة المتحدة، التي تنعت بعلاقتها الفريدة بالضباب، فيقال: لندن عاصمة الضباب. ولو استعرضنا الكثير من مدن العالم شرقيه وغربيه، لوجدنا أن لكل مدينة شهرة خاصة، بل هوية لا تكاد تشترك معها غيرها فيها. وعلى المستوى المحلي، فقد فرضت بعض المدن شهرتها أو هويتها الخاصة، انطلاقاً من موقعها الجغرافي، أو مناخها المتميز، أو منتجها الصناعي والزراعي، أو حتى بعدها التاريخي ومكانتها الدينية. إذا أتينا إلى مكةالمكرمة، فهي عاصمة كافة المسلمين في العالم بدون منازع، وهي المدينة الدينية المقدسة، ومثلها المدينةالمنورة، مدينة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. توقفت مليًا عند بعض ما نشر ورشح عن برنامج التحول الوطني (2020)؛ لعلي أجد ما يشير إلى هذا المنحى في تطوير وتنمية المدن السعودية بكافة. لم أجد ما يشبع رغبة تطلعي في هذا الاتجاه. ربما هذا راجع إلى حد فهمي، كوني لست من المتخصصين في هذا الميدان. إن جهدي في هذا المقال؛ ينصب حول هدف واحد هو: (صياغة هوية المدن). ما عدا مدينتي: مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، حيث تتحدد هويتهما من مكانتهما الدينية في نفوس المسلمين، ومن تاريخهما المرتبط بالرسالة السماوية منذ مئات السنين، فكل ما هو مطلوب منا، تعميق أسس هذه الهوية بشكل عملي، وإبراز جوانبها المميزة لها، في مظهرهما العمراني، وفي حياتهما وحركيتهما العامة. ما عدا هاتين المدينتين المقدستين؛ فإن بقية المدن؛ لا تثبت الواحدة منها على هوية واحدة، والبعض منها يتأرجح بين هذه وتلك، ويتداخل فيها التاريخي بالزراعي بالنفطي بالسياحي.. وهكذا تبدو ضبابية هوية المكان جلية في مراحل نموها، حتى في المناشط الاجتماعية والثقافية. لنأخذ الطائف كمثال على ما نقول: الطائف تاريخيًا؛ هي ثالث المراكز الحضارية في جزيرة العرب دون منازع - بعد مكة ويثرب- فالطائف ظهرت واشتهرت منذ ما قبل الإسلام، وعُرفت منذ نشأتها بالزراعة، ثم تحولت في العهد السعودي الزاهر إلى مصيف بامتياز، ومدينة سياحية شهيرة. ما هي هوية الطائف بالضبط؟ لم نجد تأطيراً ولا محدداً واحداً يجعلنا نقول بأن الطائف اليوم مدينة زراعية، أو هي سياحية، أو غير ذلك. لم تتناغم حركة التخطيط والعمران والتنمية طيلة عدة عقود مع هدف يصل بنا إلى هوية واضحة لهذه المدينة. ظل أهلها يطلقون عليها أسماء كثيرة من مثل: (الطائف المأنوس، والطائف المأمون، ومدينة الورد، ومدينة المؤتمرات، ومدينة السلام. ومصيف المملكة الأول، وعروس البر). كل يعرف ورد الطائف، ويخطب ودّ الطائف، والطائف تصرّ فلا تقرّ لهم بهذا..! هذا الأمر يسري على مدن سعودية كثيرة، في الوسط، وفي الغرب، والشرق، والشمال، والجنوب. لو أن التخطيط العمراني وتوجيه التنمية؛ ركزا على الجانب المُميَّز والمُميِّز لكل مدينة؛ تاريخيًا كان أو جغرافيًا وصناعيًا وثقافيًا ونحو ذلك؛ لأصبح لكل مدينة طابعًا خاصًا فيما يطلق عليه هوية، تعرف بها هذه المدينة وتلك، من مجرد النظر إلى شوارعها، ومعالمها العمرانية، وإنتاجها الزراعي أو الصناعي، ومناشطها الاجتماعية والثقافية، ونحو ذلك. نعود إلى الطائف المثال؛ وهي الأقرب لي للتمثيل هنا.. هي فقدت صفتها الزراعية إلى حد ما، ولم تنجح حتى اليوم في استثمار مخزونها الأثري والتاريخي الكبير سياحيًا، وتوظيفه لصالح تكوين هوية تاريخية سياحية تميزها عن سواها. صحيح أنها سعت مؤخرًا إلى استعادة قلبها التاريخي الممزّق؛ لتصبح مدينة بقلب تاريخي نابض. هذا إنجاز مهم. لكن مئات وآلاف المواقع والمعالم التاريخية والأثرية؛ التي تتصل في معظمها بالسيرة النبوية وتاريخ الإسلام المجيد، ظلت غير مستأنسة، وغير آمنة من عبث العابثين الذين يهددون وجودها كل حين. ليس هذا فحسب، بل إن مشاريع تنموية كبيرة كانت سوف تسهم في رسم الهوية التي نحلم بها للطائف لو تمت؛ ومن ذلك؛ مشروع عقبة المحمدية؛ الذي ما زال تحت التنفيذ منذ خمس عشرة سنة..! ومشروعي الطريق الدائري والمدينة الجامعية؛ مضى عليهما أكثر من اثنتي عشرة سنة وهما تحت التنفيذ..! والربط السياحي بين الشفا والهدا على الورق منذ عشرين سنة..! وكوبري مفرق ثمالة على طريق الجنوب؛ تجاوز مدة التسليم بسنتين. هذا مثال فقط على مشاريع تعثرت ثم توقفت، كانت ضمن التطوير الشامل الذي تشارك فيه البلديات والنقل والسياحة وغيرها من الجهات، والذي ربما كان يستهدف هوية الطائف في المستقبل. سعدت كثيرًا وأنا أتابع أخبار مطار الطائف الدُّولي، ومشروع الطائف الجديد على مشارف الطائف الشمالية. أتمنى ألا تظل الأفكار الجميلة حبيسة الأوراق أكثر من اللازم، وأن يراعى في التنفيذ؛ الهوية التاريخية والجمالية للطائف المأنوس. إن لكل مدينة على التراب الوطني؛ حقها في أن تفخر بتاريخها، وأن تزهو بحاضرها، وأن تظهر بثوب يميزها عن غيرها، ويترجم دورها الوطني، ويكشف عن رسالتها الإنسانية بعامة. نقلا عن الجزيرة