تداول مغردون على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" قضية "التأمين الصحي"، وفتوى بعض رجال الدين بتحريمه، حيث يرى البعض بأنه صورة من صور التأمين التجاري، والذي لا يقوم إلا على القمار (الميسر) المحرّم بنص القرآن الكريم، والتأمين بجميع أنواعه غرر المحرّم بأحاديث كثيرة صحيحة. لست هنا لأناقش قضية "التأمين الصحي" بتفاصيلها وشموليتها، ولكن أرى أن هذه القضية ما هي إلا أنموذج مثالي لواقع الفقه الإسلامي اليوم، وكيفية تعامله مع مستجدات العصر الحديث، فكما رأينا آنفا، أن التأمين بأنواعه كافة يعتبر من أحد الحلول التي أنتجتها الحضارة اليوم لمعالجة المشاكل التي تعاني منها المجتمعات في عصرنا الحاضر، وقد تعامل معها رجال الدين بموقف تاريخي متشنج، وبدلا من المحاولة والمساهمة في حل المشكلات، اكتفى الفقهاء بمسألة الحلال والحرام وبما قاله القدماء الأولون! ومن باب الإنصاف؛ القول بأن هناك محاولات فقهية تجديدية من بعض رجال الدين ولكنها في الحقيقة محدودة، وتلقى معارضة ومقاومة شديدة من التيار الفقهي السائد، وبالرغم من أن هذه المحاولات حققت إنجازات ملحوظة على أرض الواقع ومن ذلك على سبيل المثال: المصرفية الإسلامية ومنتجاتها، والتي أدت إلى دخول الناس والتعامل مع المجال البنكي بعدما كان هناك عزوف عام في التعامل مع البنوك إلا أنه بعد ذلك تم استغلال القوالب والنماذج التي يطلق عليها تجاوزا بالتعاملات الشرعية ولم تراع حقوق الناس في المقام الأول، لتسبب إشكالات حقوقية وتخل بالعدالة المطلوبة، تم التعامل معها بجمود للأسف الشديد. لا شك أن الفقه يحتل مرتبة عظيمة بين العلوم الإسلامية، وذلك لارتباطه العملي بحياة المجتمعات الإسلامية طيلة أربعة عشر قرنا في ظروف وأنساق مختلفة، حتى قيل لا خير في علم بلا تفقه، وهو علم إنساني بشري يعتريه ما يعتري الإنتاج البشري عموما من عوامل النقص والخطأ، ولكن بعض رجال الدين لهم نظرة أخرى تقديسية يتعالى معها الفقه عن أي نقاش أو نقد باعتبار مصدره الإلهي، كإلزامية التقليد والتبعية ووصف الأحكام الاجتهادية بأنها أحكام الله ولغة "إعلام الموقعين عن رب العالمين". لعلي لا أبالغ إن قلت: إن هناك انحسارا للفقه عموما عن حياة الناس واقعيا، لعدم استطاعته مجاراة التغيرات والتطورات السريعة التي تمر بها المجتمعات، لكنه يبقى حيويا في الوعي المجتمعي، وللأسف فإن هذا الأمر أدى إلى وجود تشوهات كثيرة سواء في تطبيق الأنظمة أو تقديم الخدمات للناس وفي جميع المجالات حتى تحول الأمر إلى أيديولوجيا. فدعاة هذه الأيديولوجيا يعتبرون الفقه اجتهادات تاريخية لزمان مضى صالح لهذا العصر الذي تبدل فيه كل شيء مثل التكنولوجيا والمعاملات الاقتصادية، وشبكات الاتصالات والإنترنت، والهندسة الوراثية... إلخ، ولم تحسم قضية التشريع وظل المجتمع الإسلامي يعيش وضعا تأويليا للنصوص الدينية والبحث عن المبررات لأبسط موقف، حتى أصيب المجتمع بفوبيا الحرام. ومن إشكالات الفقه الإسلامي اليوم هو الاكتفاء بعلم القدامى وعلم الماضي والاطمئنان إلى أن النجاة تكمن في الاتباع والتقليد فيما يقوله رجل الدين.. يقول أحد الفقهاء ما نصه: "فعلى الطريقة التي ذكرتها ينبغي أن يتكلم المسلم ويعتمد عليه، ولا يغتر بزخارف القول، وليتبع طريقة السلف الصالح والأئمة المرضية من الصحابة، ومنهج التابعين بإحسان لينال السعادة العظمى ويصل إلى الطريقة المثلى". بالإضافة إلى ما سبق، ما زال بعض الفقهاء للأسف يقسمون المجتمع إلى خاصة وعامة ومجتهدين ومقلدين، وهذا التقسيم يعتمد على المبادئ التاريخية القديمة، وبالتالي فإن هؤلاء الفقهاء لا يرضون بغير اجتهادات المتخرجين من المؤسسات الدينية، فضلا عن حرمان العامة من الإسهام في الإجماع، وبالتالي الحرص على علو طبقة الفقهاء على الناس وتقوية المكانة الاجتماعية لهم وإزاحة الخصوم المنافسين بسبب السلطة والسيطرة. ومن الإشكالات الفقهية أيضا، بقاء العلوم الشرعية منيعة أمام التطور المنهجي العلمي، حيث لم يستطع فقهاء اليوم تبني المناهج العلمية في اجتهاداتهم ودراساتهم الفقهية، بل ظلت النظريات والأحكام رهينة لآراء الرجال ومكانتهم الدينية، ولهذا بعض الفقهاء يرون أن العلوم الإسلامية هي علوم "إلهية"، والمناهج العلمية هي مناهج "بشرية" وشتان بين الاثنين! وليس هذا وحسب، بل ابتكر الفقهاء عبارة "المعلوم من الدين بالضرورة"، وبناء على هذه العبارة يمنع الناس في التشكيك أو نقد الأحكام الفقهية مع أنها نظريات بشرية، ويمنع أيضا إخضاعها للتحقق والفحص والمراجعة والتحليل في ظل التهديد بحكم الردة والاستتابة، وفي هذا الصدد يقول أحد الفقهاء: "الكفر اصطلاحا هو إنكار ما علم ضرورة مجيء الرسول به"، وبهذا يكفر تلقائيا من يحاول مراجعة أدلة ذلك المعلوم بالضرورة، أو من يقوم بتدقيق منهجيات العلوم الإسلامية، وقد حصل ذلك فعلا بين علماء الحديث أنفسهم حينما كانوا ينعتون بعضهم بعضا بالمبتدعة! هذا ملخص بسيط لأزمة الفقه في المجتمعات الإسلامية، وللأسف فإن بعض الفقهاء لا يريد الاعتراف بهذه المشكلة، ويقولون إن من "يقول بأن الفقه الإسلامي قاصر عن مجاراة مشاكل العصر، وأنه لا يستجيب للأهواء الجامحة، فنحن معهم، لأن الفقه الإسلامي إنما أراد الله له أن يقيم به أمة تسير على الجادة الواضحة والمحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا أن يكون مطية لذوي الأهواء"! وفي النهاية أتساءل: هل أصبح دور المجامع الفقهية ورجال الدين ينحصر فقط في التحليل والتحريم باسم الله؟ والواقع يقول إن التحريم هو السائد في الأحكام لكل ما هو جديد في هذا العصر.. لا أطلب من الفقهاء اليوم معالجة ما يعانيه المجتمع من مشاكل وحاجيات وهموم، ولكن على الأقل ألا يقفوا عقبة أمام التنمية والحضارة والإنسانية والحريات وحقوق الإنسان. نقلا عن الوطن السعودية