بطلب من صديق، قضيت مساء ما قبل البارحة، قارئاً متصفحاً لوثيقة سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية (التي أكتبها هنا باسمها الثلاثي، حين اكتشفت وبالصدفة أن هذه الوثيقة لم تكتب اسم الوطن الذي تتحدث عنه، ثلاثياً، ولو لمرة شاردة في "236" فقرة من سفرها الضخم)، وحين تنتهي من قراءة "236" عنصراً وفقرة لسياسة تعليم في وطن له أهله ورموزه وتاريخه وجغرافيته المستقلة، وله شعبه وحضارته وإرثه مثلما له دينه وعقيدته تشعر أنك في مواجهة السؤالين: من هو الذي كتب وثيقة سياسة التعليم في المملكة ولأي أهداف ومآرب، ولمصلحة من كان هذا "الاحتلال التربوي" الذي ألغى شعباً ووطناً كي "لا يكون" أبداً في وثيقة سياسته التعليمية؟ الثاني، لماذا بلغ بنا الخوف من هذه التيارات المؤدلجة إلى الحد الذي أصبحت فيه قراءة هذه "الوثيقة" الفضيحة أو محاولة تفكيكها وتحليلها جريمة وخطاً "أممياً" نارياً أحمر الألوان؟ سأقول في التمهيد: حين انتهيت مساء ما قبل البارحة من قراءة الوثيقة الفضيحة لسياسة التعليم في وطني، لم أتذكر من سياقات التطابق القرائي بين لغة هذه الوثيقة وكل تاريخ الكتب فيما قرأت من قبل سوى تماثل هذه الوثيقة، لغة ووصفاً وهدفاً، مع لغة ومتن الكتاب الشهير "جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب. عدت في نفس المساء لقراءة ذات الكتاب الشهير، الذي سحب من كل مكتباتنا العامة ومن مدارسنا أيضاً، ثم اكتشفت حين فرغت بعد أربع ساعات من قراءة هذا الكتاب مكتملاً أننا سحبنا الكتاب من الأرفف، ولكننا نطبق توصياته بحذافيرها المكتملة أيضاً، وتوصياته وكل أسطر ورقه في حياة كل طفل سعودي يذهب كل صباح لتطبيق "وثيقة سياسة التعليم في وطنه". ماذا اكتشفت في تحليل وتفكيك هذه الوثيقة؟ أولاً: تكتشف أن الوطن والشعب الذي كتبت لأجله هذه الوثيقة الفضيحة لم يرد في "236" فقرة وعنصراً سوى مرتين وللأسف الشديد، أيضاً في ما بعد الفقرة المئة، وأيضاً للكارثة في عرض هزيل تتحدث فيه فقرة عن "الخصوصية" السعودية التي يجب تسخيرها لمصالح الأمة، وفي الثانية تتحدث مباشرة عن "تحقيق الوفاء للوطن الإسلامي العام، وللوطن الخاص السعودية". حتى في تراتب الأولويات، تؤكد الوثيقة على جوهرية وابتدائية الوفاء الأممي الذي يجعل من الوطن ملحقاً ثانوياً، ثم لاحظوا أن مفردات "الولاء والوطن والمؤسس الرمز" وكلمة "الإنسان السعودي" لم ترد مطلقاً في فقرة من بين "236" فقرة من وثيقة سياسة التعليم في وطن اسمه المملكة العربية السعودية. ثانياً: وفي مقابل الحضور الهزيل لتاريخ وشعب وقيادة الوطن الذي تتحدث عنه وثيقة سياسة تعليمه، ترد مفردة "الأمة" في "26" تكراراً، وأيضاً في التضمين غير المباشر لعشرات الفقرات التي تلغي لدى الطالب أي حضور لتاريخ وطنه وولائه لجغرافيته المستقلة وخياراته السياسية. الوثيقة بالمقاربة مع كتاب "جاهلية القرن العشرين" تتحدث عن شعب متخلف يحتاج نظامه التعليمي إلى الوعي بقضايا الأمة الواسعة، والوثيقة بكل اختصار هي تجسيد لأهداف وتوصيات "جاهلية القرن العشرين" التي غرق فيها الشعب، ولا إنقاذ له سوى مناهج التعليم. نحن بكل الاختصار: ذات الأنموذج الذي تحدثت عنه هذه الجاهلية، ونحن في هذه الوثيقة هذا المعمل وهذه التجربة. الوثيقة الفضيحة في فقراتها ال"236" مجرد اختصار لفظي لتحويل كتاب جاهلية القرن العشرين إلى "كتيّب" قانوني صغير يرسم معالم السياسة التعليمية على افتراض أن أبناء هذا الشعب جهلة يبدأ معهم التعليم رحلة الخروج من عنق هذه الجاهلية. هذه الوثيقة الفضيحة لا تشير في فقرة واحدة إلى مصطلحات الولاء والانتماء ولا إلى تاريخ هذا الشعب وإرثه وحضارته ورموزه، بل على العكس تماماً غرست فيه عقيدة المواطن الأممي الذي لا يقرأ وطنه ولا يتعلمه إلا هامشياً ثانوياً بعيد أولويات الولاء الواسع العابر للحدود. الوثيقة الفضيحة تتحدث عن تدريب طلابنا بصراحة مطلقة على "فكرة الجهاد" التي وردت أربع مرات في تأطير الأربع مراحل من التعليم: من الابتدائية حتى الجامعة. بكل اختصار وعلى مسؤوليتي واستعدادي للمكاشفة والمواجهة: الذي كتب وثيقة سياسة التعليم في وطني أفراد لا علاقة لهم أبداً بهذا الوطن، ولا يعرفون علمه، ولا يعترفون بوجوده كوطن مستقل على رأس ريادة عوالمه المختلفة من حوله: نحن في هذه الوثيقة بالضبط صورة لجاهلية القرن العشرين بكل الأهداف والتوصيات. نقلا عن الوطن السعودية