في جميع المجتمعات هناك مصالح جماعية ومصالح فردية، ولا غنى للواحدة عن الأخرى. إلا أن شرط نجاح تلك العلاقة هو في تحقيق التوازن فيما بينها، حيث لا تطغى إحداها على الأخرى. فالأفراد بدافع حب الذات والتملك يسعون في إنتاج السلع والخدمات بأعلى جودة وأقل سعر، في ظل وجود تنافس لا يسمح بالاحتكار والتفرد بالسوق وفرض السعر على المستهلكين. وهذه الإنتاجية الفردية، وإن كان الدافع تحقيق المصلحة الفردية، إلا أنها تصب في المصلحة الجماعية. فالمنفعة الجماعية حسب تعريفها من الاقتصاديين هي حصيلة جمع المنافع الفردية. وبالتالي كلما كان الأفراد في المجتمع مبدعين ومنتجين، كان ذلك في مصلحة المجموع، إذ تترجم على شكل تقديم خدمات وسلع يطلبها المجتمع، وتوفير وظائف وتحسين مستوى المعيشة والنمو الاقتصادي. وتشمل الخدمات على سبيل المثال الصحة والتعليم والبنى التحتية وغيرها، مما يقدمها أو يقوم بتنفيذها القطاع الخاص بهدف الربحية. ولتوضيح ذلك نضرب مثلا يعايشه كثير من الناس، فحين يقرر أحدهم الاستثمار بفتح بقالة في الحي من أجل الربح، فإنه بذلك يسدي خدمة لسكان الحي بجعل السلع قريبة منهم وفي متناولهم، ويقلل من تكلفة النقل وضياع وقتهم في قطع مسافة طويلة للحصول على مبتغاهم وجميع ذلك يمنحهم الرضا النفسي. هذا هو الجانب المشرق من الأعمال التجارية، إلا أن هناك جانبا مظلما حينما يكون الربح على حساب المصلحة المجتمعية. فسلوك الأفراد تطغى عليه الأنانية، وفي كثير من الأحيان يتحول ذلك إلى سلوك غير رشيد ويتطرف إلى حد اللاأخلاقي. فالجشع يدفع بعض المستثمرين إلى التضحية بالمصلحة الجماعية، إما بطرق غير مشروعة مخالفة للقوانين والأنظمة التي وضعت من أجل الصالح العام وإما بطرق ظاهرها المشروعية ولكنها في واقع الأمر تضر بالمجتمع. على سبيل المثال عندما يحصل المستثمر على قرض حكومي ويقيم مصنعا استهلاكيا تجميعيا يعتمد على العمالة الأجنبية الرخيصة التي لا تجتذب المواطنين ولا تتناسب مع مؤهلاتهم ولا تضيف قيمة للاقتصاد الوطني، فإن ذلك بلا شك إضرار بالمجتمع. وهكذا في كل مجالات العمل التجاري في التعليم والصحة والتجارة والصناعة والمقاولات وغيرها، حين تقدم بأقل جودة ويكون الهدف الربح السريع، حتى أنه يكاد يقترب من وصفه بأخذ أموال الناس بالباطل تطفيفا وتدليسا. فحين يدفع الناس أموالهم مقابل الحصول على سلعة أو خدمة فإنهم يتوقعون في المقابل منفعة تساوي ما دفعوه من ريالات أو أكثر إذا لم تكن كذلك، فإنه إجحاف في حقهم وسلب لحقوقهم. وتكون المسألة أكثر إيلاما ولها تداعيات سلبية على استقرار وأمن وسلامة المجتمع حين تكون الخدمات متعلقة بحياة الناس وأموالهم. فالمصلحة العامة تنتهك حينما يتعدى فرد على حقوق الآخرين، وبالتالي فإن من مصلحة الجميع تطبيق القانون العام لضبط التعامل بين المتعاملين في السوق وتحقيق المصلحة العامة التي هي من اسمها تحفظ حقوق الأفراد بمجموعهم وتمنع تعدي بعضهم على بعض بدافع طبيعتهم البشرية في حب الاستحواذ والتملك الفردي. لكن المصلحة العامة لا تقف عند هذا الحد وهذا بيت القصيد، فهناك استحقاق جماعي من الإنتاج الوطني. والسؤال الأهم هنا: من المستفيد من العملية الإنتاجية للاقتصاد الوطني؟ وإذا كانت الموارد الوطنية الطبيعية ملك عام فإن توظيفها والعائد منها يجب أن يكون حسب معادلة تحقق العدالة الاجتماعية، حيث لا يستفيد مواطن أو يتكلف أكثر أو أقل من الآخرين. وهنا تبرز حالة المصارف التجارية التي تستفيد من الأموال المودعة في إطار من التشريعات والأنظمة العامة التي تحميها وترخص لها مزاولة العمل المصرفي وتمنحها الصفة النظامية لجمع أموال الناس والاستفادة منها. ليس ذاك وحسب، بل تتكفل بحمايتها وحفظ حقوقها من المودعين، وهي في حصانة تامة من المساءلة. وما حادثة انهيار السوق المالية في 2006 عنا ببعيدة، حينما قامت المصارف بالإقراض وبيع وشراء الأسهم وهو عمل يتنافى مع أخلاقيات المهنة المصرفية، ففيه تضارب للمصالح لتستفيد تلك المصارف على حساب المواطن البسيط الذي هرول نحو تحسين حالته المعيشة، ووثق بأن القانون والأنظمة العامة ستحميه من جشع المصارف. وربما تشدق بعضهم وقال إن القانون لا يحمي المغفلين، ولكن إذا لم يحم القانون العام المغفلين والبسطاء والضعفاء فمن يحمي؟ المصارف من أكبر المستفيدين من الاقتصاد الوطني وبحماية حكومية. والتساؤل المطروح في ظل الحالة الضبابية في تحديد المصالح الفردية والمصلحة العامة: من المسؤول عن الحفاظ وصيانة وحماية المصلحة العامة "الجماعية"؟ وفي حال تضاربت المصلحة العامة مع المصالح الفردية، هل تقدم المصلحة العامة على المصالح الفردية؟ إن الحفاظ على حقوق العموم يقع على عاتق الحكومة، فهي تمثل العموم وتملك سلطة الإجبار وتحقيق العدالة الاجتماعية، بل إن أصل السلطة العامة هو تنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم من أجل الضبط العام، وحتى لا يبغي بعضهم على بعض وتحقق الاستفادة من العائد من العملية الإنتاجية في الاقتصاد الوطني بالعدل والمساواة. المصارف منذ تأسيسها تأخذ ولا تعطي وتستفيد من الحماية الحكومية ولا تقدم مقابل ذلك أي خدمات للمجتمع، بل إنها لا تتحمل أي تكلفة اجتماعية ولا تسهم في تطوير المشاريع التجارية والاجتماعية. فالاستقرار والأمن والازدهار الاقتصادي الريعي المعتمد على البترول تستفيد منه المصارف دون تكلفة تذكر! وهنا لا نعني بالتكلفة المجتمعية المسؤولية الاجتماعية التي هي اختيارية، والتي يفترض أن تأتي بعد أن تؤدى التكلفة الاجتماعية الإلزامية. إن على الدولة على أقل تقدير تحصيل الفوائد البنكية التي لا يطالب بها المواطنون على إيداعاتهم لأسباب دينية، إضافة إلى فرض رسوم أو ضريبة ربح على المصارف تعادل ما تتمتع به من خدمات حكومية تقدم بتكلفة جماعية يشترك فيها جميع المواطنين "لأنها تعتمد على الموارد العامة". لا بد من إعادة النظر في تعريف المصلحة العامة بنظرة عميقة، حيث يمكن السماح، بل تشجيع تعظيم المصلحة الفردية طالما أنها تحقق المصلحة العامة وإلا فلا! فمتى ومن يوقف أنانية المصارف ويجعلها تسهم بفاعلية في بناء الاقتصاد الوطني ومعالجة المشكلات الاجتماعية بقدر المليارات من الريالات التي تجنيها سنويا؟! نقلا عن الاقتصادية