لا أعرف إذا كان مفهوم "الانكماش الاجتماعي" من ضمن المفاهيم التخصصية المتعلقة بعلم الاجتماع، أو علوم المجتمع لأنني غير متخصص في هذا المجال مع أن لي قراءات فيه، وفي هذا المجال عندما نناقش كبار السن ممن عمره ثمانون عاما أو أعلى، أو نستمع لأحاديثهم، ورواياتهم، وقصصهم نستنتج أن مجتمعاتهم كانت مجتمعات بسيطة، ومتواضعة، وغير متكلفة، وغير متعلمة، وأعدادهم محدودة، وفي المقابل نستنتج أن المجتمع الذي عاشوا فيه كان أكثر ترابطا، وتكاتفا، وتعاطفا، وتعاونا، وتآلفا، وتوادا، وتعاونا، ويتعاملون مع بعضهم البعض بنوع من الصدق، والشفافية، والإخلاص، ولا يجاملون بعضهم بعضا، ولا يقبل أحدهم أن يستمع لأي نوع من السب، أو الشتم، أو النميمة في جاره، أو قريبه، أو صديقه، أو أي فرد من الأفراد الذين يعرفهم، بل يقوم بالدفاع عنه بكل ما يستطيع إذا كان ما قيل فيه غير منطقي، أو غير صحيح، ولا يحاكي الواقع ؛ فهو بذلك لا يرضى للآخرين إلا ما يرضاه لنفسه، وهذا - من وجهة نظري على الأقل - قمة الإخلاص، والصدق في المعاملة، والاحترام، وهذا يؤكد بعدهم عن الحسد، والأنانية لأن وضعهم متقارب من كافة الجوانب. وهناك العديد من الشواهد التي تثبت تقارب أفراد هذا الجيل سواء الشعوري أو المكاني، ومن هذه الأدلة أو الشواهد الحية التي نجدها في سيرهم، أو في أماكن إقامتهم ما يدل على ذلك التقارب ما هو قائم من مساكنهم، أو موثق في سيرهم الذاتية، ففي السابق كان الناس قريبين من بعضهم البعض، ويقضون كثيرا من أوقاتهم مع بعضهم البعض، وإذا جاء إلى أحدهم قادم، أو ضيف تجمع جميع الجيران لدى المضيف لتناول القهوة، وتبادل الحديث وأخذ الأخبار من هذا القادم، وكل شخص يأتي معه بشيء من القهوة أو الهيل مشاركة لجاره، ولإدراكهم لأحواله وإمكاناته، وهذا مثال حي للتكاتف الاجتماعي، والألفة، والمحبة، كما أن الشخص في الماضي كان يقوم بزيارة جيرانه بين الحين والآخر حتى وإن لم يكن هناك ضيوف، ويتناول معهم القهوة، ويعد ذلك من باب التواصل، وفي كثير من الأوقات يتجمع أفراد القرية، أو الموقع الواحد ويذهبون جميعا للتسوق، ويشاركون بعضهم من الأغراض التي اشتروها، أما الجانب الآخر الذي نرى فيه التقارب المكاني فأكبر دليل على ذلك نمط البناء في القرى قديما، حيث نجد أن المنازل القديمة قريبة من بعضها البعض إن لم تكن ملاصقة لبعضها؛ حتى أن بعضها مشترك في السطوح، وإذا عزم أحد الأفراد بناء منزل طُلب منه أن يكون منزله الجديد قريبا من منازلهم، ولا يكون بعيدا عنهم، ويتم تقديم المساعدة المادية والمعنوية من الجميع لمن يقوم ببناء منزل جديد، ونتيجة لذلك نجد أن البيوت القديمة قريبة من بعضها، وإذا غاب أحدهم عن الصلاة بالمسجد بدأ السؤال عن هذا الغائب، وهذا دليل على قربهم من بعضهم البعض، واهتمامهم بأحوالهم، ولذلك هذا الجيل (جيل الأمس) لم يعان من الانكماش الاجتماعي، بل هو جيل تقارب وتواصل، وتكاتف وتعاون، وقد يكون ذلك نتيجة حتمية لحاجة بعضهم لبعض، وللخوف الذي كانوا يعانون منه في الماضي، ولصفاء النية وطيبة قلوبهم. يتردد كثيرا في هذه الأيام الكلام عن عدم وجود تآلف وتكاتف وتعاون بين جيل اليوم، وهو واقع نعيشه جميعا، فنادرا ما نرى جيل اليوم يتواصل مع أفراده، ويسأل عنهم، ويهتم بأحوالهم، ولا يهتم بأمورهم حتى إن كانوا من أقاربه، وليس هناك زيارات متبادلة حتى بين الأخوان والأقارب إلا في المناسبات الرسمية، وفي حالة الزيارة نجد أن الزائر والمستضيف كأنهما في قفص، وليس بينهما ما يتبادلانه من أخبار، والكل مشغول بهاتفه، ومتابعة ما يجد من أخبار، أو تغريدات، أو "هاشتاقات"، ومن الملاحظ أن هناك تنافرا حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، ويكون بينهم نوع من الفرقة، وعدم الاتفاق على أشياء طفيفة لا تستحق الفرقة والاختلاف، وفي حالة تقديم الدعوة لأي مناسبة قد يتم الاعتذار عن الحضور من دون عذر مقبول، وإذا حضر كان آخر من يحضر، وأول من يغادر، والبعد الشعوري، وحتى البعد المكاني يؤدي إلى الفرقة، والانكماش الاجتماعي، وغياب الألفة والمحبة، وقد يدخل عامل الحسد والغيرة على الخط، ويؤدي إلى هذا التباعد، والانفصال، أو ما أسميه ب"الانكماش الاجتماعي"، فنجد أن القريب يحاول أن يسكن بعيدا عن قريبه، ولا يكون هناك اتصال أو تواصل حتى في وجود وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا الفرقة، أو الانكماش الاجتماعي قد لا ينطبق على جميع أفراد الجيل الحالي، ولكنه ينطبق على شريحة كبيرة منهم، وقد يعود السبب الرئيس في ذلك إلى عدم احتياجهم لبعضهم البعض، والأمن، ورغد العيش الذي يعيشون فيه في وقتنا الحاضر. حفظ الله قادتنا ووطننا من كل سوء، وأدام علينا نعمة الأمن والرخاء. نقلا عن الوطن السعودية