استنكر البعض تقليد ونقد الدعاة في البرامج والمسلسلات الفنية، معتبرين ذلك نوعا من الاستهزاء بأهل الدين والسخرية منهم، وبالتالي السخرية من الدين نفسه. وفي هذا الصدد يقول أحدهم: "لا تعجب من إملاء الله للمستهزئ الساخر من الحق، فإنما يملي له ليزداد إثماً وضلالة فيكون حسابه عسيرا (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)". وهنا أتساءل: لماذا لا يمكن نقد الوعاظ؟ أليسوا بشراً مثلنا؟ والبشر خطاؤون؟ وعند قيام وسائل الإعلام بانتقاد التصرفات الخاطئة لبعضهم، فهل معنى ذلك التجاوز على الدين؟ أعتقد أن الدعاة يدركون جيداً أن نقد التصرفات الخاطئة ليس معناه الإساءة إلى الدين وتجاوزه، ويعرفون هذا تمام المعرفة، ولكن أخوف ما يتخوفون منه في الواقع هو أن فكرة "النقد" قد تهدم صرح التسليم والانقياد الذي يطلبه بعض الدعاة من أتباعهم، وإذا كان هناك نقد لتصرف شيخ أو داعية ما، فعلى المرء أن يأتي إلى الشيخ، وتطرح المسائل فيما بينهما سراً لا أمام الناس علانية. الدعاة حالهم كحال سائر البشر، يتحركون بسبب طبيعتهم البشرية في طلب الرزق والمسكن والزواج والترفيه، ويهتمون كثيراً بمكانتهم الاجتماعية بين الناس، ولكن هناك بعد آخر وخصوصية تاريخية لهم. البعض يرى بأن هذه الخصوصية تتمثل في أن الدعاة يطرحون أنفسهم بصورة مكونة من الأسرار والغيبيات، وكأنهم "مخزن الأسرار الغيبية، ويعلمون بأمور لا ينبغي للآخرين أن يعلموا بها". كما أن البعض منهم قاموا بتأويل معاني بعض نصوص القرآن الكريم وبفهم خاطئ لتبدو وكأنها تتحدث عن رجال الدين، والاستدلال بها على أن لهم مكانة دينية خاصة، وبالتالي فإن أي مجادلة لهم أو نقدهم والسخرية منهم هو كفر وردة عن الإسلام، لأن ذلك استهزاء بدين الله ورسوله. ومن الآيات القرآنية التي يستدلون بها على كفر من ينتقد أو يسخر منهم الآيتان 65 و66 من سورة التوبة، وفي قوله تعالى: (إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون..لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم). وقد اعتاد معظم الناس على قراءة الآيتين السابقتين بما يقوله ويفسره لهم الدعاة، فيفهمون الآيات القرآنية على الشكل الذي يريده الداعية ووفق رأيه الشخصي، مما يرسخ فكرة أن نقد الدعاة والمشايخ هو نوع من الكفر والردة والاستهزاء بدين الله، وبالتالي الاقتراب من (خط أحمر)! وبل ومجادلته ومناقشته حرام لا تجوز! ولكن لو سمح القارئ الكريم لنفسه بالعودة إلى الآية 64 من سورة التوبة نفسها وفي قوله تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون)، واستمر في القراءة إلى الآية 67: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف)، وابتدأ القراءة من أول السورة لوجد أن السياق القرآني يتحدث عن المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم وأصبحوا مجرمين وجواسيس يساعدون المشركين الذين نقضوا عهدهم وشنوا حربهم وعدوانهم على المسلمين، وبالتالي فإن الآيات القرآنية ليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالدعاة، كما أن الآيات لا تعطي حصانة لأي بشر كان ضد النقد أو تفنيد وتمحيص آرائه الشخصية، والإسلام يعتبر النقد والمناقشة من حقوق الناس أجمع، فكيف نمنع هذا الحق باسم القرآن والدين؟ لقد اعتاد الدعاة في الماضي على انقياد وانصياع الناس لهم، وقبول نظرياتهم وآرائهم الشخصية على أنها حقائق مطلقة ومسلمة وثابتة، وكان المجتمع آنذاك يعيش في عالم من المفاهيم والرؤى والنظريات المنسجمة في كل شيء، سواء كان في الاقتصاد أو الاجتماع أو الدين أو الأخلاق، حينها كان الدعاة محاطين بصرح وهالة من التبجيل والأسرار الغيبية. وبتغير المجتمع والانتقال من عصر إلى آخر، تغيرت تلك المفاهيم والأفكار والنظريات، وتغيرت طرق وأنماط التفكير، وفقد الناس ذلك الانسجام الفكري الذي كانوا يعيشونه في الماضي، فأصبح الفرد في المجتمع يجعل من عقله مصدراً للحكم على القضايا الحياتية والاجتماعية وفي رؤيته لأحكام الشرع والدين، وأصبحت الفتاوى محل نقاش ونقد، وأخذ ورد من جميع فئات المجتمع، فكما رأينا مثلاً استنكار واستغراب معظم الناس لتلك الفتوى القائلة ب"تحريم السفر إلى دبي"، فقد اعتبرها الناس من الفتاوى الغريبة والشاذة، حتى إن صاحبها تراجع بسبب ردة فعل الناس، ولو أن هذه الفتوى صدرت في الماضي لقبلها الناس وعملوا بها، وقالوا للداعية "زادك الله علماً يا شيخنا الجليل". وعلى هذا الأساس، نجد اليوم شقاً كبيراً وبوناً شاسعاً بين الدعاة والمجتمع، الأمر الذي اعتقد فيه البعض أن الناس قد فسدت أخلاقهم وزاد ابتعادهم عن دين الله، وقل احترامهم للعلماء والمشايخ!، وبالتالي هم لا يرغبون في رؤية الصرح المعنوي الذي بني على مر التاريخ أن يصيبه الخلل والاهتزاز ويتعرض للتحقير والاستخفاف. للأسف الشديد، فإن التغيير الذي يمر به مجتمعنا في الوقت الحاضر، يتصدى له بعض الدعاة والمشايخ وقد اتخذوا منه موقفاً سلبياً، في الوقت الذي توقع منهم الناس أن يكونوا هم رواد هذا التغير وذلك لأن من أهداف الإسلام الإصلاح وتلبية احتياجات الناس وحل مشاكلهم. ومن أشد المقاومين لتغير المجتمع، هم أولئك الذين يخشون فقد مكانتهم بين الناس، وفقد الجاه والسلطة وانقياد الناس لهم، في الوقت الذي كان من المفترض منهم صياغة نظريات جديدة تنسجم مع متطلبات العصر الحديث، لذا فإن الفجوة تزداد وسوف يبتعد الناس عن رجال الدين أكثر فأكثر. نقلا عن الوطن