كيف لي، وكيف لأي إنسان سواي، أن يفسر ما بات يتردد أمامنا كل يوم من أعمال يقترفها إنسان القرن 21 ضد أخيه الإنسان. كيف لنا أن نحلل حوادث القتل المنفلت التي يرتكبها إنسان منتصر ضد إنسان أعزل؟ كيف لنا أن نستوعب هذا الجنون وهذه العبثية! كيف لنا نحن البشر أن نتعامل مع ما أصبح زادا شبه يومي لنا مما تتناقله القنوات الإعلامية من ممارسات يذبح فيها البشر، وتقطع فيها الرؤوس، وتحرق فيها المنازل، وتسحل فيها الأجساد، وتلاك فيها الأعضاء البشرية؟ لا شك أننا أمام حقبة مظلمة شوهت أبصارنا، وعطلت حواسنا، وكلست مشاعرنا، وأعطبت نفسياتنا، بحيث أصبحنا لا أقول نتقبل بل نتعايش مرغمين مع كل هذه الوحشية المرعبة، ونغمض أعيننا لنذوق شيئا من طعم النوم، وقد ننتشي بشيء من عابر الأحلام.ما يحدث اليوم في العالم العربي هو انتحار جماعي للأخلاق وللمدنية قبل أن يكون عبورا بمرحلة انتقالية ما. وما يحدث اليوم في العالم العربي هو نتاج لغياب ثقافة الحضارة والتمدن التي تؤمن بسيادة القانون. إنه أمر مريع وبداية لحقبة سوداء قاتمة. فالبشر يقتلون لاختلاف الرؤى والمعتقدات، وكل يرى أنه أحق بالحياة من الآخر، لا لشيء إلا لاعتقاده بأنه أقرب إلى الحق ممن سواه. مشاهد مقززة للقتل وسحل الجثث والتمثيل بها. أفراد يسمون أنفسهم «ثوريون» يأكلون قلوب «الأعداء»، وجيش يدمر قرى بأكملها ويدفن ساكنيها وهم أحياء، وجماعات تجز أعناق جماعات، وجماعات تنحر جماعات بالسكاكين على هتافات تهلل وتكبر، وكأنهم يريدون أن يغطوا بشاعة أفعالهم بمبررات دينية ومسوغات روحانية، بعد أن حصلوا على رخصة القتل بدعاوى المعتقد والطائفة.صحيح أن القتل الوحشي ارتكبه البشر في الماضي في كل الثقافات من أفريقيا إلى أمريكا وأوروبا والصين لمسوغات دينية واهمة ولنوازع سيكولوجية شاذة. ففي ثقافة شعب الأشانتي الأفريقية جرت العادة أن يأكل المنتصرون قلوب الأعداء بعد الظفر بهم. وفي قبائل شمال أمريكا كانوا يحيلون جثث الأعداء إلى رماد يبتلعونه أملا في اكتساب الشجاعة والقوة. وليست ببعيدة جرائم الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور خلال الحرب الأهلية في سيراليون (1991 2002)، والذي حكم عليه بالسجن لمدة 50 عاما بتهمة إعطائه الأوامر لجنده بأكل لحوم الأسرى من الأعداء، وقد قيل إنه قد قام هو نفسه بمثل تلك الأعمال الوحشية دلالة على الانتصار والشجاعة.لكن يبدو أننا تفوقنا على جميع الحضارات في القتل الوحشي، فبينما كانت الأعمال في ما مضى مستهجنة شاذة، أصبحت لدينا مدعاة للفخر، وطفقنا نوثقها جذلين بالصوت والصورة عبر اليوتيوب والفيديو الحي في مشاهد يعجز الخيال السينمائي عن تصويرها. لماذا يرتكب الإنسان عملا وحشيا ثم يصفق له الآخرون؟ هل أصبح التزمت الديني مبررا للأعمال الوحشية، أم أنه مجرد غطاء لتلك الفظاعات؟ ما هي سيكولوجية الفرد، أم ما هي سيكولوجية الجماعة التي تقوم بهذه الأعمال؟ وكيف تصاغ المسوغات أيا كان مصدرها لقتل الآخرين بشكل كرنفالي؟ هذه الأسئلة كانت محور نقاش فكري مؤلم بيني وبين ابنتي وصديقتي. لم نتوصل لإجابة مقنعة، ولكننا توصلنا لحقيقة مؤلمة.إن قتل إنسان أعزل من السلاح وغير قادر على الدفاع عن نفسه، لأي دين ينتسب ولأي مذهب ينتمي، وبغض النظر عن مسوغات هذا القتل، هو جريمة بشرية لا يقبلها دين ولا منطق ولا يبررها التعصب والتطرف الدوغمائي؛ لأنها ببساطة تنتمي إلى منطقة الهمجية والافتراس الحيواني. غير أن الحيوانات تفترس وتقتل من أجل أن تعيش، لا من أجل أن تنتقم وتتشفى، ولا من أجل أن تزهو وتتلذذ وتمثل بجثة الفريسة.نحن البشر، وقد أصبح مدلول هذه المفردة «البشرية» مدعاة للألم وليس الارتقاء، ما زلنا كما أظهرت نتائج اختباراتنا الإنسانية في أدني مراتب سلم الحضارة، وفي أعلى المراتب همجية ووحشية. فهل ننتصر لإنسانيتنا المختطفة، وحرياتنا المعطلة، وديننا الذي كرم بني آدم وحرم قتله إلا بالحق الواضح وليس الحق الذي نتوهم امتلاكه؟ نقلا عن عكاظ