إذا كان الربيع العربي تحول بالفعل إلى خط تاريخي فاصل في تاريخ المنطقة، فإن هذا يعني أنه أتى معه بمتغيرات سياسية تقطع مع ما كان قبله، وتؤسس لواقع سياسي جديد في هذه المنطقة. لا يزال هذا الواقع في طور التشكل، ولا أحد يعرف تماماً على ماذا سيستقر، ومتى سيكون هذا الاستقرار، أفي المدى القريب أم البعيد، لكن هذا تحديداً ما يضع الدول العربية جميعاً، تلك التي زارتها عاصفة الربيع أو تلك التي تجنبت العاصفة، أمام مسؤولية الاعتراف بالتغير، ومواجهة متطلباته، بهدف الإمساك بزمام حركة التغير، حتى لا تجد الدولة نفسها أمام واقع لا تملك الكثير من أدوات السيطرة عليه. قارن النموذج المغربي الذي نجح حتى الآن في تفادي العاصفة، مع النموذج السوري الذي غرق في متاهة العاصفة. الإمساك بزمام حركة التغيّر مسؤولية كل الدول العربية من دون استثناء، لكن ما يهمني هنا هو المملكة العربية السعودية، ليس فقط لأنها بلدي، وأمرها يهمني قبل غيرها، وإنما أيضاً لأنها دولة كبيرة ومحورية في العالم العربي، ولأنها بحجمها السياسي والاقتصادي وبتاريخها وقدراتها، من بين الأكثر تأهيلاً للإمساك بحركة التغيّر. فالسعودية عموماً مجتمع متجانس إثنياً ودينياً، وتاريخ نشأة الدولة فيها يعود الى منتصف القرن ال12ه/18م، وقامت هذه الدولة بديناميكيات ومفاهيم وأدوات محلية، عربية وإسلامية، وهذا يعني أنها دولة لم تنشأ وفقاً لظروف ومعطيات خارجية، ولا لمصالح أجنبية، وإنما استجابة لمعطيات ومصالح محلية. إلى جانب ذلك، فهي دولة تتمتع باستقرار سياسي عمره أكثر من 80 عاماً منذ تأسيسها الثالث، كما تتمتع حالياً بوضع اقتصادي ومالي مريح، وعلاقاتها الإقليمية والدولية مؤاتية. وبعد كل ذلك كانت القيادة السياسية للمملكة تستشعر دائماً حجم مسؤوليتها أمام هذا الإرث، وما يترتب عليه من مسؤوليات، وما يرتبط به من مصالح. استطاعت المملكة تجاوز كل العواصف السياسية التي هبت على المنطقة منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن، لكن عاصفة «الربيع» تختلف في طبيعتها وحجمها عن كل العواصف السابقة، وهو ما يتطلب مقاربة مختلفة، فالعواصف السابقة كانت جميعها تتعلق بالصراعات الإقليمية وامتداداتها الدولية، أما عاصفة الربيع فمنشأها محلي، وهدفها محلي، وتتعلق حصراً بالعلاقات السياسية المحلية لكل دولة عربية، ولذا فإن أهم المتغيرات التي دشنها هذا الربيع يتعلق بمفهوم الدولة العربية، وطبيعتها، وعلاقتها مع شعبها، وبحقوق هذا الشعب عليها قبل علاقاتها الخارجية. أي أن هذه العاصفة تتعلق في أصلها وفصلها بوضع حدّ للطبيعة السياسية التي كانت عليها هذه الدولة منذ نشأتها الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى. تأسست هذه الدولة آنذاك على مبدأ سياسي واحد يختصر أموراً كثيرة، وهو أن علاقة الدولة بالشعب هي علاقة ذات اتجاه واحد، من القيادة للشعب. كان هذا مواتياً في الظروف الاجتماعية والسياسية قبل نصف قرن أو أكثر، ثم جاءت عاصفة الربيع لتعلن تغيّر الظرف، ولتهز هذا المفهوم، وتقول إن صلاحيته السياسية انقضت. لم يعد هناك مفاصلة إن كان ينبغي لهذه العلاقة أن تتغير، فالمفاصلة الآن هي كيف ينبغي لهذا التغير أن يتم، وترجمة ذلك أن الإصلاح قبل الربيع كان مطلباً عربياً، وبعد الربيع صار واقعاً إقليمياً لا يمكن تفاديه، وليس من المصلحة التقليل من شأنه وتداعياته، وإذا كان هدف التغير واحداً، فإن طريقة الوصول إليه ليست واحدة لكل الدول العربية. ماذا يجب على السعودية أن تفعله في مثل هذا الظرف؟ نجاح المملكة في التعامل مع العواصف السابقة بامتياز يمثل، كما ذكرت، إنجازاً كبيراً، لكنه يرتب عليها مسؤوليات كبيرة، وقبل ذلك يجب أن يكون مصدراً للثقة في قدرتها على الانتقال بمفهوم الدولة مما تأسس عليه في بداية القرن العشرين إلى ما يجب أن يكون عليه الآن، ولعلي أستعين هنا مرة أخرى بما قاله الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن للأديب أمين الريحاني في عشرينات القرن الماضي في الرياض: «نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل فوق ما فعلوا» لا يسمح المجال هنا بتناول كل ملفات الإصلاح، ولا التفصيل فيها، وهي ملفات معروفة لقيادة الدولة، ومحل عنايتها قبل غيرها. الاهتمام بمعالجة الاهتمامات المالية والمعيشية للمواطن خطوة مهمة وملحة، لكن الاقتصار عليها يترك الانطباع بأن الشعب السعودي غير معني بحقوقه السياسية، وتبعاً لذلك فالدولة غير معنية بهذه الحقوق أيضاً، والأمر ليس كما يبدو عليه في الظاهر، لا من الشعب ولا من الحكومة، وبالتالي يجب ألا يكون هذا الاهتمام إلا خطوة أولى تعطي الأولوية لمعالجة القضايا المباشرة والأكثر إلحاحاً، مثل البطالة والسكن ومستوى المعيشة، على أن تعقبها خطوات إصلاحية أخرى تتناول القضايا السياسية، مثل الانتخاب والتمثيل، والفصل بين السلطات، وتفعيل نظام هيئة البيعة، وحرية التعبير، واستقلال القضاء، وجعل الجميع سواسية أمام القانون... إلخ. تأتي ضرورة الإصلاحات السياسية والدستورية من حقيقة أن الأثر الإيجابي في الناس للإصلاحات الاقتصادية، وبخاصة المالية، عادة ما يكون موقتاً بسبب ارتباطه بظروف اقتصادية واجتماعية متغيرة بطبيعتها، فزيادة الرواتب مثلاً، أو تأمين مشاريع سكنية، أو بدل البطالة، سيتلاشى أثرها في الناس خلال عام على الأكثر، وذلك نظراً لارتباطه بعوامل مثل التضخم، وتغير نمط المعيشة وحاجاتها، والزيادة المضطردة في عدد السكان... إلى غير ذلك. هذا في حين أن الإصلاحات السياسية، وبخاصة منها الإصلاحات الدستورية، يبقى أثرها الإيجابي في الدولة وفي الناس لعقود طويلة، لأنها إصلاحات معنية قبل أي شيء آخر بتعزيز متانة مؤسسات الدولة، وبدعم حال الاستقرار السياسي في المرحلة الحالية التي تمر بها المنطقة وترسيخه، ولعله من الواضح أن الإصلاحات الاقتصادية المترافقة مع إصلاحات سياسية ودستورية هي الخيار الأفضل، لأنها تعزز متانة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتوفر لهما أساساً مؤسساتياً راسخاً، انطلاقاً من حقيقة أن الدولة والشعب هما الطرفان الرئيسيان لمعادلة العملية السياسية في المجتمع. من الخطوات السياسية المطلوبة معالجة النمو البيروقراطي الكبير الذي عرفته الدولة في العقود الأخيرة، مع بقاء مركزية القرار في الدولة، وأثر ذلك على أداء الحكومة في إدارة الشؤون اليومية للدولة، والخطوة الأخرى تفعيل نظام تدوير النخبة، والتخلص من ظاهرة بقاء أصحاب المناصب العليا، أو البعض منهم، في مناصبهم لعقود من الزمن، وقبل ذلك تفعيل نظام هيئة البيعة لتأمين وتحصين عملية انتقال الحكم على أساس قانوني متين، وهو قانون يحظى في شكله الحالي بالإجماع، وليس هناك أدعى من تحقيق ذلك تحت قيادة الجيل الأول ورعايته، بما يحظى به من سُلطة وهيبة وقبول لدى الجميع، أما الخطوة الثالثة فتتعلق بالبدء على مراحل في توسيع سلطات مجلس الشورى، وتحوله إلى سلطة تشريعية منتخبة، وفي شكل تدريجي أيضاً، وكل ذلك يتطلب تعديلات دستورية، تفتح الباب أمام فصل سلطات الدولة، ودخول المملكة إلى مرحلة دستورية جديدة، تتكامل مع ما سبق، وتنتقل بها إلى متطلبات المرحلة الجديدة. تشكل الخطوات السابقة الإطار الدستوري والسياسي لخطوات أخرى تكمل الإصلاحات الإدارية والاقتصادية التي بدئ بها، مثل معالجة قضية البطالة، والعمالة الأجنبية، وملف ظاهرة الفساد. إن استشراء هذه الظاهرة تحديداً إلى درجة اضطرت الملك لإنشاء هيئة لمكافحة الفساد يعني أن الدولة أضحت بالنسبة للبعض مغنماً، وإطاراً قانونياً لتحقيق منافع شخصية، وليست مسؤولية قانونية وسياسية وأخلاقية. ثم تأتي أهمية إعطاء الأولوية لمسألة تنويع مصادر الدخل، وذلك لوضع حدّ لحقيقة باتت معروفة للجميع، وهي أنه بعد أكثر من 60 عاماً من عمر النفط، لا تزال هذه المادة تشكل أكثر من 80 في المئة من دخل المملكة القومي، وأصبحنا نتيجة ذلك رهينة لمعادلة غريبة: إيرادات الدولة تتضاعف، بينما إنتاجيتها تتراجع، ومعدلات البطالة فيها ترتفع، والتعليم يقصر كثيراً عن المأمول منه، وأرقام العمالة الأجنبية تتصاعد. باختصار، يمثل تزامن الإصلاح الاقتصادي والسياسي خيار المملكة للتأقلم مع متطلبات المرحلة، واستكمال تطورها، وترسيخ الأسس التي تقوم عليها، ودعم الاستقرار السياسي الذي تتمتع به منذ ثمانية عقود، وهي تستحق كل ذلك، وأكثر. نقلا عن الحياة اللندنية السعودية