خبرتي في الإعلام تتجاوز عقدين من الزمان. مارسته عقدا كمراسل لكبريات المؤسسات الإعلامية الغربية ودرسته أكاديميا وكتبت عنه ونشرت لي أبحاث وكتب، أقول وبتواضع شديد: يتخذها اليوم البعض منهاجا في التدريس والبحث العلمي. والإعلام وسيلة مادته الرئيسة الخطاب أو اللغة. واللغة بمثابة المادة الخام بإمكانك تطويعها للخير أو للشر. والخير في الإعلام يتمثل في النزاهة عند تقديم المعلومة ولا سيما الخبرية منها. أي على الصحافي أو المراسل ومؤسسته الإعلامية التجرد قدر المستطاع من الشخصنة والمباشرة وعدم التحيز لذاك الشخص أو الفريق استنادا إلى الدين أو الجنس أو الطائفة أو المذهب أو القومية. ومع النزاهة تأتي الموضوعية التي هي عكس الذاتية. الموضوعية والنزاهة ركنان من أركان الإعلام فقدانهما يؤشر إلى سقوطه في مستنقع المصالح، وفي مقدمتها تأتي مصالح القوى والأنظمة - أفراد ومؤسسات ودول - التي يعتاش الإعلام عليها. ليس هناك إعلام نزيه بالمرة. وليس هناك إعلام موضوعيا 100 في المائة. ولكن لدينا نحن الباحثين وسائل وطرق علمية تمكننا - ولا سيما من خلال التحليل النقدي للخطاب (اللغة) - من معرفة مدى قرب أو بعد الخبر أو التقرير أو المؤسسة الإعلامية من النزاهة أو الموضوعية. ويؤسفني أن أقول إن الإعلام العربي، ولا سيما الأسماء الكبيرة فيه من قنوات إخبارية وصحف شهيرة قد سقط في امتحان النزاهة والموضوعية سقوطا مريعا، سيكون لدوي هذا السقوط تبعات كارثية على مستقبل الشعوب العربية. أقول - وهنا أضع نفسي كباحث على المحك - إن الوضع الحالي للإعلام العربي، بعد دراسات أكاديمية رصينة للأسماء الكبيرة من قنوات وصحف، يؤشر إلى فقدان أبسط المعايير المهنية والموضوعية التي يتطلبها العمل الصحافي. وواحد من المعايير المهمة يتعلق بالشفافية. فهذه القنوات والصحف تبث وتركز مثلا على التقارير التي تبجل وتشيد بإنجازاتها وإنجازات أصحاب نعمتها ومن يدور في فلكها. هذا حق ولا سيما إن أتى من مصادر بحثية وعلمية وأكاديمية مستقلة. ولكن الشفافية تتطلب نشر تقارير تؤشر إلى سلبيات وتجاوزات مهنية في مسيرتها ومسيرة أصحاب نعمتها ومن يدور في فلكها، وما أكثرها اليوم، ولكن يتم تجاهلها بالمرة. أقوم حاليا بتحرير كتاب مهم عن النزاهة في الإعلام في عصر العولمة والمعلوماتية، يسهم فيه كبار المختصين في علوم الإعلام في العالم، وفيه تحليلان عن الإعلام العربي يبرهن فيهما الباحثون على أن بعض القنوات الإخبارية الشهيرة تعمل وكأنها ناطق رسمي للجهات والأطرف والدول التي تقف خلفها وتموِّلها ويتماشى الخطاب حسب الرؤى السياسية وغيرها لأصحاب نعمتها. وقد أكدت هذه الدراسات أمهات الصحف والمجلات العالمية أخيرا ومنها "فورين بوليسي"، ولكن لم يرد ذكر فيها لهذه التقارير، بيد أنها لو كانت إيجابية لجعلتها مادة رئيسية لنشراتها. لم أكن أتصور أن يصل الأمر إلى التخلي عن أبسط المعايير المهنية والموضوعية ويتحول الخبر الصحافي إلى خطبة وإثارة، ولا سيما للنعرات المذهبية والطائفية - حسب ما تؤكده هذه الدراسات والتقارير. ولم أكن أعلم أن واسطة إعلامية يشاهدها عشرات الملايين تقبل نشر تعليقات تدعو إلى العنف والكراهية بشكل مباشر ومقزز. ولم يدر بخلدي أن ينكب المراسلون والمعلقون على التاريخ العربي والإسلامي، الذي نتشرف به وندافع عنه باستماتة لسماحة وسعة صدر وانفتاح ووسطية أغلبية حلقاته المركزية، لنقل مفردات وعبارات تشير إلى تهميش بل تكفير الآخرين استنادا إلى خلافات قد تكون ثقافية ولغوية ومكانية وزمانية أكثر منها إيمانية أو عقائدية. وما هالني أكثر هو سقوط الإعلام والصحافة في لبنان - البلد العربي الذي يختلف بعض الشيء عن الآخرين لهامش الحرية والديمقراطية فيه - حيث ظهر للعيان بعد اغتيال اللواء وسام الحسن كيف أن أسماء ماسية لامعة وصحفا شهيرة قبلت أن تبيع استقلاليتها ونزاهتها وموضوعيتها مقابل المال، وكيف أن كثيرا من الإعلاميين والوسائل الإعلامية تتباهى بإنشاء علاقات حميمة مع أجهزة أمنية لمصالح خاصة. إن كان الإعلام يسهم في تغيير القناعات - وهذا صحيح - فإن الإعلام العربي يخلق قناعات ويضعها في قوالب مختومة وجاهزة ويقدمها للمتلقي وكأنها حقائق جازمة لا منافس لها، بدلا من أن يترك مساحة من الحرية للمشاهد والمستمع والقارئ كي يكوِّن قناعاته بنفسه نقلا عن الاقتصادية