حين تتابع نقاشاً أو اختلافاً بين الفرقاء في الساحة الدعوية أو الثقافية والعلمية عندنا تظن أنك قد ولجت إلى مسلخ بشري.. سيل هادر من الألفاظ النابية، والتخوين والتجريح. هذه الظاهرة ليست حكراً على تيار دون تيار، بل هي ظاهرة عامة يتعاطى من خلالها الكثيرون، فيعرضون أفكارهم ومواقفهم من الآخرين بعنف وصلف واستعداء وقوة في العبارة تصل إلى حد التقاذف والتراشق والسفول بالألفاظ. في "تويتر" أصبحت ظاهرة "الهاشتاقات" ظاهرة عجيبة وتدعو للأسى والحزن، فما عليك حين تريد تصفية حسابك مع شخصية، أو تيار، أو جماعة سوى أن تفتح "وسماً " وكأنك تقول للناس هلموا إلى فريستكم فافترسوا، ثم يأتي سيل هادر من الناس ليخرجوا كل ما في أجوافهم من عبارات قاسية، تبدأ بالتخوين والسب والشتائم إلى الطعن بالأديان والتحريض، في مشهد بشع، يربي الداخلين عليه من جيلنا على أساليب لا تنبت إلا اعوجاجاً في الأخلاق، وسقوطاً في القيم، وتشنجاً في الطبائع، فيكون هذا "المهشتِق" قد سن سنة سيئة يتحمل وزر كل من دخل وأساء، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، رواه مسلم في صحيحه، فكيف إن كان هذا المحرض قد بيت النية للإساءة إلى شخص أو هيئة، ومن يتحمل أوزار هؤلاء الذين ينهشون بالناس اطمئناناً إلى غيبة الرقيب، أو تأثراً بحالة ثورية شعورية كأنما سحرت الناس وغطت عقولهم وقلوبهم من تلمس مواضع الخلل والخطل؟ قلت مرة في لقاء إننا في السعودية مكائننا واحدة، وأشكالنا تختلف، ولكن المشكلة حين يقع في هذا الأمر أساتذة جامعات، وموجهو جيل، ومثقفون معروفون، ودعاة بارزون، لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، ولا يدرون أنهم بهذا يصنعون لنا من أبنائنا جيلاً خداجاً لا يرقى بنهضة، ولا يصنع مستقبلاً، ولا يحيي أمة. إن هذا الجو العجيب ينكره الكثيرون من المتذمرين من أخلاقيات هذا المشهد، لكنهم لا يستطيعون البوح بهذا الاعتراض، لأنهم سوف يواجهون حملات شعواء، ولربما يتردد البعض بالاعتراض، أو ينكر على استحياء بكلمات تحوم حول الحمى توشك أن ترتع فيه، لأن التيار وفورته كالسيل الهادر لا يقف في وجهه شيء، وخاصة حين ترى رفقاء الأمس أعداء اليوم، يتفنن بعضهم في الحط من قدر الآخر، ومحاولة تشويهه بكل وسيلة. ولا شك أن هذا الأسلوب ليس في مصلحة الجميع، وسيكون انعكاسه على السلم الاجتماعي خطيرا للغاية. وما نشاهده يذكرنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم". رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر. ولقد فتحنا أبواباً للشيطان مؤصدة، ووضعنا له طرقاً معبدة لينفث بيننا الإحن والأحقاد، والتباعد والتباغض. إن الإشكالية الكبرى في هذه المشاهد المؤلمة هي غياب العدل والإنصاف مع المخالفين، ورمي القيم الأخلاقية والآداب الإسلامية خلف الظهر، فما إن يسمع أحد خبراً إلا ويطير فيه كل مطار، ونادراً ما يقرأ الإنسان في هذه الأجواء مقولة "اصبروا وتثبتوا"، فالمقياس ليس التثبت، بل كم وصل عدد المغردين الداخلين، وكم بلغ عدد التفاعل، حتى ولو كانت المعلومات ناقصة أو مجتزأة أو مكذوبة. لا بأس من النقد والاعتراض وإبداء الآراء والحوار في جميع مشكلاتنا وقضايانا المصيرية، بأسلوب هادئ، وأفكار محررة، ومنطلقات ظاهرة، خاصة أن المختلفين يجمعهم مكان واحد يستطيعون من خلاله الرد والتناقش وتقديم إنموذج للجيل في رقي الفكر والمنهج، ولكن الإشكالية حين يعرض كل هذا بقالب من السقوط والتعدي، وهدم الأخلاق، وتقطيع الأواصر بين المؤمنين، ومثل هذا الأسلوب لن ينتج فكراً واعياً ولا نهضة واعدة. وأخطر من ذلك حين تغلف كل هذه المسائل بغلاف الغيرة على الدين، وحماية الفضيلة، وقمع المخالفين للشريعة، وكأن الديانة والغيرة على حرمات الشريعة والالتزام بآداب الإسلام منفصلة عن القيم الخلقية الشرعية، وهم بهذا يؤصلون لعلمانية تحيد الأخلاق عن الدعوة والحسبة.. وتربي الأجيال على الشدة دون اللين، والعنف دون السماحة. إن مرحلتنا التي نعيش فيها، والتحديات التي تواجه بلدنا وواقعنا العربي والإسلامي تقتضي منا نظرة مصلحية كبرى، نحسب لكلامنا وتصرفاتنا ألف حساب، ونخفف حدة التوتر والحنق النفسي الذي يدفع باتجاه العنف والنقمة على الواقع والنظرة السوداوية التي لا ترى إلا البقع القاتمة، ولكن الواقع للأسف هو بخلاف ذلك، إنه واقع يبين أن العقلانية والنظرة إلى المصالح تعد لغواً وعبثاً، وكلما ارتفع صوت الإنسان، وتفنن في أسلوب الهجوم، وابتكر الألفاظ المؤذية كان قائداً للجيل ومحركاً للمشهد، وذلك لأن طبيعة الاعتدال في الفكر تدفع إلى اعتدال في الحركة، فينزوي المعتدلون، ويتفرد الغلاة والمتطرفون في المشهد فيكونون نجوماً لا يشق لهم غبار، ولا يستفيد منهم متابعوهم إلا مزيداً من الأخلاق الرديئة، والمعاني المرذولة.. والله المستعان. إن هذا الكلام لا يعني تعميم الظاهرة على الجميع، فلا يزال هناك فئات متخلقة بالأخلاق ومتسلحة بالعقل والمنطق والديانة، ولكن صوت هؤلاء صوت ضعيف وخافت في خضم الضوضاء والأصوات العالية التي تغطي على كل صوت يريد تصحيح المسار وتقويم الطريق. نقلا عن الوطن السعودية