دعيت مؤخرا لحضور مؤتمر نظمته جامعة ماليزيا الإسلامية والحكومة الماليزية معاً هدفه إنشاء «حركة عالمية للمعتدلين» فى العالم. وقد حرصت على المشاركة ليس فقط بدافع الرغبة لمعرفة المزيد عن تلك الحركة، وإنما من أجل التعرف عن قرب على التجربة الماليزية فى الاقتصاد والسياسة والوقوف على جوهر أسباب النهضة التى تحققت هناك. أول ما تلاحظ حين تقضى بعض الوقت فى ماليزيا هو أنك إزاء بلد إسلامى، ينص دستوره على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام ويلتزم المشرع فيه بأحكام الشريعة الإسلامية، إلا أنك تعيش فيه إسلاماً بلا ضجيج. إسلام يتنفسه الماليزيون ويعيشونه ويمارسونه بكل جدية ولكن دون كلام كثير ولا كلام كبير. فأنت لا تجد هناك سلوكيات زاعقة كالتى يتبناها البعض هنا فى مصر، ولا تعنى إلا أن صاحبها يريد أن يقول لك فى كل دقيقة «والله العظيم أنا مسلم ومتدين» دون أن يشكك أحد فى إسلامه أصلاً أو يطلب منه إثباتا لتدينه. وإذا سألت المسلمين الماليزيين، يقولون لك إنهم يتبنون «الوسطية الإسلامية». وهو ما تعلنه بفخر الحكومة الماليزية نفسها بل واعتبرته الأساس الذى بنت عليه مؤتمرها. وماليزيا مجتمع متعدد يضم ماليزيين من المالايو، وآخرين من أصول صينية وهندية. والمالايو هم السكان الأصليون ويدينون بالإسلام. لكن الهنود والصينيين وفدوا إلى ماليزيا عبر التاريخ واستوطنوا فيها وصاروا مواطنين. ورغم أن المالايو المسلمين يمثلون الأغلبية فإنك تلحظ تعايشا وحرية ثقافية ودينية لا تخطئها العين. فالمالايو المسلمات يرتدين الحجاب دون فرض، بينما ترتدى الصينيات والهنديات أحدث صيحات الأزياء العالمية دون حرج. وأنت تجد المساجد إلى جانب المعابد البوذية والهندوسية. وكانت ماليزيا «الدولة» وقت زيارتى تستعد للاحتفال برأس السنة الصينية التى يحتفل بها البوذيون أى الماليزيون من أصل صينى. فالأعياد الدينية للأقليات أعياد «وطنية» تعامل فى ماليزيا مثلها مثل أعياد الأغلبية. والماليزيون يكنون احتراما وتقديرا خاصا لمصر كونها بلد الأزهر. فهناك اثنا عشر ألف ماليزى تقريبا يدرسون فى الأزهر كل عام. وكلما ذكرت أنك مصرى يعاجلك محدثك فورا بأن عمه أو أخاه أو ربما أسرته بأكملها درست فى الأزهر. تأملت الواقع الماليزى والواقع المصرى، وتأملت دور الأزهر هناك ودوره هنا، فوجدتنى إزاء مفارقة جديرة بالاهتمام. فما الذى يجعل الأزهر مُصَدّرا للوسطية خارج مصر دون أن يلعب الدور نفسه داخلها؟ والإجابة فى تقديرى تكمن فى الفارق بين الأزهر كجامعة وبين الأزهر كمؤسسة إسلامية عريقة. فهو الفارق بين الدراسة الفقهية وبين دور الأزهر. فالأزهر كجامعة لايزال يحتفظ بدوره، حيث يقدم الدراسة الفقهية التى تسمح للدارس بالتعمق فى علوم الدين وفى دراسة كل المذاهب الفقهية الإسلامية على نحو علمى. لكن الأزهر كمؤسسة إسلامية تراجع دوره كثيرا بفعل عقود طويلة من التبعية لنظام الحكم فى مصر سحبت من رصيد مصداقيته. والفارق بين الأزهر «الجامعة» والأزهر «المؤسسة الإسلامية الرائدة» هو فى تقديرى الفارق بين دور الأزهر داخل مصر ودوره خارجها. فنحن المصريين الأكثر تأثرا بتراجع مصداقية الأزهر بسبب تبعيته لحكومتنا، لأنها تؤثر على مواقف الأزهر من الشأن المصرى الداخلى والخارجى. وتراجع مصداقية الأزهر داخل مصر خلق فراغا ملأته رؤى واتجاهات ورموز دينية حلت محله ونافسته. أما الأزهر «الجامعة» فلايزال ينتج أجيالا من الوسطية الإسلامية للشعوب الأخرى. وتراجع دور مصر ودور الأزهر معا نتج عنه مفارقة أخرى مهمة. فماليزيا- وليست مصر- هى التى ترفع اليوم راية «الوسطية الإسلامية» التى طالما رفعتها مصر، حتى إن ماليزيا هى التى تتبنى اليوم الدعوة لحركة عالمية «للاعتدال والوسطية». فالوسطيون فى ماليزيا أزهريون بلا أزهر، بينما المصريون صاروا رهينة للفراغ الذى خلقه تراجع دور الأزهر ودور مصر نفسها. ومن هنا، صرت أكثر اقتناعاً بما كتبته هنا من قبل، وهو أن ما يجرى فى مصر الآن من إقحام للأزهر فى الصراع السياسى فى مصر يضر بمصر ولا يسهم فى استعادة الأزهر لدوره ومكانته كمؤسسة إسلامية شامخة لعبت أدواراً مبهرة فى تاريخ مصر وتاريخ المسلمين. فبالنسبة لمصر، فإننى لا أفهم كيف يدعو الناس ليل نهار للدولة المدنية ثم يطلبون من المؤسسة «الدينية» أن تفصل بينهم فى الصراع السياسى! واعتراضى على إقحام الأزهر فى الصراع السياسى لا يعنى الدعوة لإقصائه من الحياة العامة، فالعكس هو الصحيح. فما يحدث لا علاقة له بدور الأزهر ولا بما قد يعيد له مكانته. فهناك فارق شاسع بين أن ينحاز الأزهر للحق والعدل داخل مصر وخارجها ويقف بوضوح ضد الظلم والفساد ويتخذ مواقف مستقلة من قضايا المسلمين الحيوية، وبين أن ينخرط فى العملية السياسية فى مصر. وهى عملية سياسية مطلوب منه أن يلعب فيها دور حائط الصد ضد فريق سياسى عبر تحويله إلى سلطة دينية لا وجود لها أصلا فى الإسلام، الأمر الذى يجعلنا ندور فى الحلقة المفرغة نفسها. فبدلا من انحياز الأزهر المرفوض لمواقف الحكومة، مطلوب منه الانحياز لموقف تيار سياسى دون آخر! وهى الحلقة المفرغة ذاتها التى كان إحدى نتائجها أن ترفع ماليزيا، وليس مصر، راية الوسطية الإسلامية فى العالم. ورغم أن مؤتمر ماليزيا أثار شجونى بشأن مكانة بلادى ودور الأزهر، فإن ما دار فى المؤتمر نفسه وفى لقائى بمهاتير محمد يستحق حديثا آخر، فإلى مقال الأسبوع القادم بإذن الله.krb نقلا عن المصري اليوم