الرقابة بشكل عام تعني التأكد من المطابقة بين أمرين، التأكد من مطابقة فعل ما لنظام أو قرار، فمثلا لا يمكنك أن تراقب سلوك ابنك ما لم تحدد له - أنت أو أي مصدر آخر - ما يجب عليه فعله وما لا يجب، فمستحيل عقلا أن تقيم عليه الحجة لرفضك أو تصحيحك سلوكه ما لم تحدد له ما يجب عليه فعله، وأن يقبل ذلك كمعيار. هذه سنة الله الذي قال - جل شأنه ''وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم''، إذا فلا بد من معيار متفق عليه بين الطرفين المراقب والعامل بين الرقابة والأداء. وفي عالم المال والأعمال إذا أطلقت عبارة نظام الرقابة فإنها أشمل من مجرد قواعد وإجراءات، بل تشمل حتى أدوات الرقابة من الأنظمة المحاسبية والتقارير الدورية والمراجعة الداخلية، بل حتى الأجهزة المستخدمة وأنظمة حماية البرامج الإلكترونية، وهنا نطلق عليها نظام الرقابة الداخلية، بل تندرج مع النظام الشامل حتى المراجعة الخارجية ولجان المراجعة ومبادئ الحوكمة الحديثة. وهذه جميعها أركان أساسية في بناء الشركة الحديثة. ولا يكفي أن يكون النظام الرقابي موجودا بشكله النظري كأن يكون مكتوبا وأجهزته موجودة، بل يجب أن يكون مطبقا وأن الأجهزة مستخدمة فعلا. وللتأكد من هذا كله يقوم المراجع الداخلي بجهد هائل، لكن الأهم منه في ذلك رأي مراجع الحسابات الخارجي. لأنه لا بد لتقدير سلامة ودقة وكفاءة هذا النظام أن يكون المدقق له وللالتزام به مستقلا عنه ولم يشارك في بنائه. كل هذا معروف في عالم المراجعة والمال والأعمال حتى دخل علينا مفهوم الرقابة الشرعية والمراجعة الشرعية فاختلط الحابل بالنابل. الرقابة الشرعية تعني عند أصحابها التأكد من أن المؤسسة ملتزمة بتطبيق الشريعة الإسلامية بحسب ما تفتيها بذلك الهيئة الشرعية المعينة من قبل الشركة. فالمقارنة الرقابية إذا هي بين ما تقرره الهيئة الشرعية أنه من الشرع الإسلامي وما هو مخالف له وبين أداء المؤسسة، ثم تصدر هذه الهيئة تقريرا يؤكد أن أداء المؤسسة متوافق مع الشرع الإسلامي الحنيف، وأيضا حسبما تراه الهيئة. فالهيئة هي مصدر الفتوى وهي أيضا التي ستحكم على أداء المؤسسة (أي هي المراقب في الوقت نفسه)، وهي في أول الأمر وآخره معينة من قبل المؤسسة التي تطلب التقرير. هنا مشكلات كبيرة أولها الاستقلال الذي يجب أن يكون بين من وضع النظام الرقابي (الهيئة الشرعية هنا) ومن يراقب تنفيذه. النظام الرقابي (شرعي أو غيره) يجب أن يكون مثاليا وفق مفهوم أفضل الممارسات (أي ليس مثليا بالمعنى المطلق) بحيث لو أن هناك مؤسسة أخرى في القطاع نفسه والحجم نفسه فإن عليها - وهي قادرة - أن تطبق هذه الإجراءات المثلى (وهي هنا تمثل الفتوى الشرعية للمعاملات). هذه المثالية تقتضي أنه يستطيع شخص آخر، غير من قام بوضع الفتوى، القيام بفحص الالتزام بها وأن يصدر تقريرا عن ذلك. ليس ذلك فحسب، بل تقتضي أيضا أنه لو جاء شخص ثالث مؤهل وكرر عملية الفحص سيصل إلى النتيجة نفسها. المشكلة في قيام من أفتى بالفحص والتأكد من أن الفتوى في معاملات المال والأعمال لها الكثير من الأوجه والاختلافات والآراء بين العلماء المختصين. فإذا حدث وقام من وضع الفتوى نفسه بالرقابة على تنفيذها وقع في فخ التأثيرات النفسية شاء أم أبى، ولا معصوم هنا. لأنه تحت الضغوط الفكرية ودفاعا عن فتواه أو حتى دفاعا عن منصبه سيعمل على القول بموافقة الإجراءات التنفيذية لفتواه أو على الأقل لمعناها (فهو الذي يعرف الفتوى ويفهم التطبيق)، أو أنه سيضطر إلى تغيير فتواه لتتناسب مع الإجراءات عندما يصعب تغيير الإجراء، المهم أن يصدر التقرير بشكل جيد. قد لا يحدث هذا فعليا اليوم، لكنه محتمل نظريا ونحن لا نبني لليوم بل للمستقبل، وهذا يكفي للقول بعدم إمكانية قيام من وضع الفتوى بعمل من يراقب تنفيذها، هذا ما تقول به النظريات وأفضل الممارسات في عالم المراجعة والرقابة الداخلية. المشكلة الثانية، مشكلة تسويق الفتوى. فإذا استقر القول على أن الذي يفتي يقوم بالتأكد من تنفيذ الفتوى بنفسه وفي ظل وجود علماء كثر لهم آراء كثيرة حتى إن لم يكن لهم القدر نفسه من الشهرة، فإن المؤسسة قادرة على تسويق الفتوى التي تريدها، وعندما تجدها تحل أزمتها فورا بتعيين صاحب الفتوى المناسبة. والمشكلة الثالثة: أن التأكد من التزام مؤسسة ما بالفتوى المقررة وفي جميع معاملاتها المالية يلزمه القيام بعمليات تدقيق وفحص إما دورية وإما مستمرة. البعض يتهاون في هذا التدقيق حتى ادعى البعض منهم وجود مكاتب مهنية سموها مكاتب المراجعة الشرعية. لا مانع لدي من ذلك مبدئيا، ولست ضد هذا التوجه طالما هناك طلب اجتماعي له، لكن يجب الالتزام بفكر المراجعة وفكر التدقيق وليس مجرد اسمه. أن يقوم مفتون وشرعيون بأعمال التدقيق دون الحصول على درجات علمية في هذا التخصص كمن يقرر جواز زرع الكلى ثم يقوم هو بزراعتها لأنه أفتى بذلك. التدقيق الذي يفحص أعمال المؤسسة وفقما نصت عليه الفتوى ليس فتوى ولا يحتاج إلى شرعيين بقدر احتياجه إلى مهنيين. ذلك أن المهنة تقتضي على أصحابها الكثير من الإجراءات والكثير من الأعمال التي استقرت عليها هذه المهنة كأفضل الممارسات لها، حتى التقرير في شكله وتصميمه كلها لم تكن بدعة من أعمال المدققين يغيرونها وقت ما يشاءون، بل هي معايير ملزمة لا مجال لضبطها وفهمها إلا من خلال التعليم والتدريب المكثف. خلاصة القول إن ما يحدث الآن في عالم ما يسمى الرقابة الشرعية والمراجعة الشرعية فوضى لن تؤدي سوى إلى هدم هذا المشروع الحضاري المهم. نقلا عن الاقتصادية