حين يتحدث المرء عن العيوب والسلبيات التي يعاني منها المجتمع العربي فيما يتعلق بثقافة الحوار والتسامح واستقلالية الرأي، فإنه يحلو للكثيرين نسبة ذلك للبيئة التي نعيش فيها وللقيود الموضوعة من قبل الرقيب السياسي أو الديني أو الاجتماعي أو الأبوي، وعليه فإنه بمجرد أن نتحرر من هذه البيئة الضاغطة فإنه بالإمكان أن نصبح أشخاصاً أفضل! وبما أننا في عصر الربيع العربي، فإنه يترتب على التغيير الذي حصل في الدولة س أو ص أن يغير الكثير من السلبيات التي كانت متفشية بين الناس. وينطبق هذا الكلام أيضاً على من تحرر من بيئة الإعلام التقليدي إلى الفضاء الرقمي الرحب، فإلى أي حد يعد هذا صحيحاً من واقع التجربة؟ حين كنت في بريطانيا، لاسيما في السنوات الأولى قبل بدء برنامج الملك عبدالله للابتعاث، عندما كانت أعداد النساء السعوديات المبتعثات قليلة جداً، عانيت وزميلاتي الأمرين من نسبة كبيرة من الزملاء السعوديين. كانوا يرفضون مشاركتنا في النشاطات الجامعية المتعلقة بالسعودية، رغم مخالفة ذلك لقانون الجامعات البريطانية، أو في حضور الاجتماعات الطلابية للأندية التي تشرف عليها الملحقية الثقافية ولها ميزانية من الدولة، ناهيك عن موضوع الانتخابات، إذ أرسلت اللجنة المشرفة على الانتخابات رسالة قبل التصويت بليلة واحدة تمنعنا فيها من المشاركة حضوراً أو تصويتاً، لأنه لم تجر العادة بذلك! بل وحتى في غير القضايا المتعلقة بالمرأة كان الأمر مأساوياً، فانتخابات إدارات المدارس السعودية في المدن المختلفة كانت تجري فيها أحياناً مهازل ومناوشات قد تصل لعراك بالأيدي والكراسي! فالمعارك بين التيارات والتحزبات المناطقية والمذهبية كانت تتجلى بوضوح في مثل هذه المنافسات "الديمقراطية". فهؤلاء سعوديون، كان معظمهم طلبة دكتوراة، سكنوا ودرسوا في واحدة من أعرق ديمقراطيات العالم، فلم يستطيعوا أن يتخلصوا من إرثهم الثقيل في تهميش المرأة، ولا في التعصب لابن منطقتهم أو فكرهم وإقصاء الآخر، فنقلوه معهم بشكل أكثر تشوهاً للبيئة الجديدة. وما يحدث الآن في العالم الرقمي لا يختلف كثيراً عن ما ذكرته آنفاً، ولو أنه مختلف في درجة فجاجته بحيث لا يلحظه المرء من النظرة الأولى. أعرف أن ما سأذكره هنا ربما لن يعجب الكثير من الزملاء في عالم الإعلام التفاعلي، لكن باعتباري منتمية ومنذ البداية للإعلامين: التقليدي والتفاعلي، وكثيراً ما انتقدت الأول فأرى بأنني ملزمة أيضاً بنقد الثاني. يرفع الشباب في المدونات والشبكات الاجتماعية شعار الرأي والرأي الآخر، وأنهم متحررون من سلطة المجتمع الأبوية، ومن رقابة الإعلام التقليدي، وغيرها من العوامل التي تحجب الفكر وتحد من الإبداع. يقولون أيضاً إنهم متعافون من ثقافة القطيع والشللية والتعصب أياً كان نوعه، وقد يصدق هذا الأمر على البعض، فهناك بالفعل نماذج رائعة ومشرفة، ولكنها ليست الصورة الكاملة. للشبكات الاجتماعية وجه آخر، فلها أيضاً رموزها ونجومها الذين لديهم عدد هائل من الأتباع، وأنا إذ أقول أتباعاً لا أقصد فقط الترجمة الحرفية لكلمة "فولورز" على تويتر أو " فريندز" على الفيسبوك، وإنما المعنى اللغوي للتبعية أيضاً. فأن تكون تابعاً لهذا النجم، يعني أنك ببساطة تؤيد كل ما يقوله، بل وتعززه أيضاً، وتنتظر رأيه في القضايا المختلفة أو الأشخاص لتبني رأيك، وإذا رأيته متورطاً في مساجلة مع شخص لا يتفق معه، فأنت ستنبري متطوعاً لتدعم جانبه دون أن تسأل نفسك إن كان الحق معه فعلاً. وهناك مجموعات أخرى، ليس بالضرورة تلتف على شخص واحد، ولكنهم مجموعة أشخاص يبدو وكأنهم أقسموا قسماً سرياً على أن يمارسوا سياسة: "امسك لي وأقطع لك" مع بعضهم، وهذه الفئة هي الأخطر، لأنها تضم وسطها عدداً كبيراً من المثقفين والكتاب والإعلاميين. سلوك آخر، يتمثل في العكس تماماً، ولا أعرف عما إذا كان ردة فعل للسلوك الأول، ولكنك تجد فئة "المعارضين"، ولا أقصد بذلك الشخص صاحب الفكر الذي لديه الشجاعة الكافية لأن يُعبر عن رأيه المختلف عن البقية، فهذا في نظري بطل، وإنما عن ذلك الذي يتعمد أن يعارض الآخرين لأجل المعارضة. الذي يريد أن تتفرغ له وحده لتقنعه وتقدم له كل الأدلة والبراهين، ليرد عليك دائماً وأبداً وبغض النظر عن الموضوع قائلاً: "بس أنا أختلف معك"، أحياناً يقولها بأدب، وأحياناً بدون. أضف إلى ذلك أيضاً شخصنة القضايا، تطرح رأياً فيرد عليك أحدهم بحدة غير مبررة: "أستغرب هذا الرد من أكاديمي أو داعية أو مثقف"، بدل أن يحاورك في صلب الموضوع، والنهاية ستكون معروفة؛ خروج للحوار عن مساره وعن الموضوعية ومشكلات بالجملة. بعض شباب الشبكات الاجتماعية متضايقون هذه الأيام مما يعتبرونه هجوماً لبعض الصحفيين والكتّاب في الإعلام التقليدي عليهم واعتبارهم ظاهرة صوتية، وهجومهم أيضاً على ظاهرة "الهشتاق" التي تمارس بإفراط في تويتر، في حين أنهم يمارسون الهجوم ذاته مع خصومهم، فمن لا يعجبهم مقاله أو رأيه سيتعرض لهذا العقاب الإلكتروني القاسي "الهشتقه"، وهؤلاء بالأصل ينظرون بنظرة سلبية لجل كتاب وصحافيي الإعلام التقليدي ويعتبرونهم مدجنين ولا يملكون فكراً حراً ويعيشون خارج نطاق العصر. لست في معرض الدفاع عن هذا الفريق أو ذاك، فأنا منتمية للاثنين كما أسلفت، وإنما ذكرت ذلك لأشرح كيف أن المشكلة الأولى ليست في البيئة التي نعيش فيها بقدر أو الوسط الذي نتحرك فيه (تقليدياً أو رقمياً) بقدر ما هي فينا نحن، فهذه البيئة هي محصلة سلوكياتنا نحن بالأساس. حتى بعد قيام الثورات هنا وهناك، والتخلص من الأنظمة التي غذت الكثير من السلوكيات السلبية وباركتها، لا يجب أن نتوقع أن حال تلك البلدان سيتغير بين ليلة وضحاها، فلن تختفي الرشوة والواسطات والمحسوبيات والاختلاسات والفهلوة من تلقاء نفسها، بل ستختفي فقط حين تدرك الشعوب وتعترف بأنها هي أيضاً كانت جزءاً فعالاً من نظام فاسد. وبالرغم من أنه تم التخلص من الطبقة الأكثر فساداً فيه، ستظل الطبقات الأخرى موجودة، ويبقى على هذا المواطن العربي أن يغير ما بنفسه حتى يغير الله حال مجتمعه بغض النظر عن البيئة والوسط الذي يتحرك فيهما..فالثورة تبدأ منك أنت..والتغيير يجب أن ينتهي إليك. نقلا عن الوطن السعودية